صفحة جزء
وقوله تعالى : وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة قال أبو بكر : قد قيل فيه وجوه :

أحدها ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح : قال حدثنا ابن وهب عن حيوة بن شريح ، وابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أسلم أبي عمران قال : غزونا بالقسطنطينية وعلى الجماعة عبد الرحمن بن الوليد والروم ملصوق [ ص: 327 ] ظهورهم بحائط المدينة ، فحمل رجل على العدو ، فقال الناس : مه مه ، لا إله إلا الله ، يلقي بيديه إلى التهلكة ، فقال أبو أيوب : إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار ، لما نصر الله نبيه وأظهر دينه الإسلام قلنا : هلم نقيم في أموالنا ونصلحها ، فأنزل الله تعالى : وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا فنصلحها وندع الجهاد ؛ قال أبو عمران : فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية .

فأخبر أبو أيوب أن الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة هو ترك الجهاد في سبيل الله ، وأن الآية في ذلك نزلت . وروي مثله عن ابن عباس وحذيفة والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك . وروي عن البراء بن عازب وعبيدة السلماني : " الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة هو اليأس من المغفرة بارتكاب المعاصي " . وقيل : " هو الإسراف في الإنفاق حتى لا يجد ما يأكل ويشرب فيتلف " . وقيل : " هو أن يقتحم الحرب من غير نكاية في العدو " وهو الذي تأوله القوم الذي أنكر عليهم أبو أيوب وأخبر فيه بالسبب . وليس يمتنع أن يكون جميع هذه المعاني مرادة بالآية لاحتمال اللفظ لها وجواز اجتماعها من غير تضاد ولا تناف فأما حمله على الرجل الواحد يحمل على حلبة العدو ، فإن محمد بن الحسن ذكر في السير الكبير أن رجلا لو حمل على ألف رجل وهو وحده لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية ، فإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية فإني أكره له ذلك ؛ لأنه عرض نفسه للتلف من غير منفعة للمسلمين .

وإنما ينبغي للرجل أن يفعل هذا إذا كان يطمع في نجاة أو منفعة للمسلمين ، فإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية ولكنه يجرئ المسلمين بذلك حتى يفعلوا مثل ما فعل فيقتلون وينكون في العدو فلا بأس بذلك إن شاء الله ؛ لأنه لو كان على طمع من النكاية في العدو ولا يطمع في النجاة لم أر بأسا أن يحمل عليهم ، فكذلك إذا طمع أن ينكى غيره فيهم بحملته عليهم فلا بأس بذلك ، وأرجو أن يكون فيه مأجورا ؛ وإنما يكره له ذلك إذا كان لا منفعة فيه على وجه من الوجوه وإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية ، ولكنه مما يرهب العدو ، فلا بأس بذلك ؛ لأن هذا أفضل النكاية وفيه منفعة للمسلمين . والذي قال محمد من هذه الوجوه صحيح لا يجوز غيره ؛ وعلى هذه المعاني يحمل تأويل من تأول في حديث أبي أيوب أنه ألقى بيده إلى التهلكة بحمله على العدو ؛ إذ لم يكن عندهم في ذلك منفعة ، وإذا كان كذلك فلا ينبغي أن يتلف نفسه من غير منفعة عائدة على الدين ولا على [ ص: 328 ] المسلمين . فأما إذا كان في تلف نفسه منفعة عائدة على الدين فهذا مقام شريف مدح الله به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلونوقال : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون وقال : ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله في نظائر ذلك من الآي التي مدح الله فيها من بذل نفسه لله .

وعلى ذلك ينبغي أن يكون حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه متى رجا نفعا في الدين فبذل نفسه فيه حتى قتل كان في أعلى درجات الشهداء ، قال الله تعالى : وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور وقد روي عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتله .

وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبد الله بن الجراح ، عن عبد الله بن يزيد ، عن موسى بن علي بن رباح ، عن أبيه ، عن عبد العزيز بن مروان قال : سمعت أبا هريرة يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : شر ما في الرجل شح هالع وجبن خالع وذم الجبن يوجب مدح الإقدام والشجاعة فيما يعود نفعه على الدين وإن أيقن فيه بالتلف ؛ والله تعالى أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية