صفحة جزء
باب الوقوف بعرفة قال الله تعالى : فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام قال أبو بكر : [ ص: 387 ] قد دل ذلك على أن مناسك الحج الوقوف بعرفة ، وليس في ظاهره دلالة على أنه من فروضه ، فلما قال في سياق الخطاب : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس أبان بذلك عن فرض الوقوف ولزومه وذلك لأن أمره بالإفاضة مقتض للوجوب ، ولا تكون الإفاضة فرضا إلا والكون بها فرضا حتى يفيض منها ؛ إذ لا يتوصل إلى الإفاضة إلا بكونه قبلها هناك .

وقد اختلف في تأويل قوله : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فروي عن عائشة وابن عباس وعطاء والحسن ومجاهد وقتادة والسدي : أنه أراد الإفاضة من عرفة ، قالوا : وذلك ؛ لأن قريشا ومن دان دينها يقال لهم الحمس كانوا يقفون بالمزدلفة ويقف سائر العرب بعرفات ، فلما جاء الإسلام أنزل الله تعالى على نبيه : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا ومن دان دينها أن يأتوا عرفات فيقفوا بها مع الناس ويفيضوا من حيث أفاض الناس . وحكي عن الضحاك أنه أراد به الوقوف بالمزدلفة وأن يفيضوا من حيث أفاض إبراهيم عليه السلام . وقيل : إنه إنما قال : " الناس " وأراد إبراهيم وحده ، كما قال تعالى : الذين قال لهم الناس وكان رجلا واحدا . ولأن إبراهيم عليه السلام لما كان الإمام المقتدى به سماه الله تعالى أمة كان بمنزلة الأمة التي تتبع سنته ، جاز إطلاق اسم الناس ، والمراد به هو وحده . والتأويل الأول هو الصحيح لاتفاق السلف عليه ، والضحاك لا يزاحم به هؤلاء ، فهو قول شاذ . وإنما ذكر الناس هاهنا وأمر قريشا بالإفاضة من حيث أفاض الناس ؛ لأنهم كانوا أعظم الناس ، وكانت قريش ومن دان دينها قليلة بالإضافة إليهم ؛ فلذلك قال : من حيث أفاض الناس

فإن قيل : لما قال : فإذا أفضتم من عرفات ثم عقب ذلك بقوله : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس و " ثم " يقتضي الترتيب لا محالة ، علمنا أن هذه الإفاضة هي بعد الإفاضة من عرفات ، وليس بعدها إفاضة إلا من المزدلفة وهي المشعر الحرام ، فكان حمله على ذلك ، أولى منه على الإفاضة من عرفة ؛ ولأن الإفاضة من عرفة قد تقدم ذكرها فلا وجه لإعادتها .

قيل له : إن قوله تعالى : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس عائد إلى أول الكلام ، وهو الخطاب بذكر الحج وتعليم مناسكه وأفعاله ، فكأنه قال : " يا أيها المأمورون بالحج من قريش بعد ما تقدم ذكرنا له أفيضوا من حيث أفاض الناس " فيكون ذلك راجعا إلى صلة خطاب المأمورين ، وهو كقوله تعالى : ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن والمعنى : بعد ما ذكرنا لكم أخبرنا كم أنا آتينا موسى [ ص: 388 ] الكتاب تماما على الذي أحسن . ويجوز أن يكون " ثم " بمعنى " الواو " فيكون تقديره : وأفيضوا من حيث أفاض الناس ؛ كما قال تعالى : ثم كان من الذين آمنوا معناه : وكان من الذين آمنوا ، وقوله : ثم الله شهيد على ما يفعلون معناه : والله شهيد . فإذا كان ذلك سائغا في اللغة ثم روي عن السلف ما ذكرنا ، لم يجز العدول عنه إلى غيره .

وأما قولك " إن ذكر عرفات قد تقدم في قوله : فإذا أفضتم من عرفات فلا يكون لقوله : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس وجه " فليس كذلك ؛ لأن قوله فإذا أفضتم من عرفات لا دلالة فيه على إيجاب الوقوف ، وقوله : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس هو أمر لمن لم يكن يقف بعرفة من قريش فقد أفاد به من إيجاب الوقوف ما لم يتضمنه قوله : فإذا أفضتم من عرفات إذ لا دلالة في قوله : فإذا أفضتم من عرفات على فرض الوقوف . ومع ذلك فلو اقتصر على قوله : فإذا أفضتم من عرفات لكان جائزا أن يظن ظان أنه خطاب لمن كان يقف بها دون من لم يكن يرى الوقوف بها ، فيكون التاركون للوقوف على جملة أمرهم في الوقوف بالمزدلفة دون عرفات ، فأبطل ظن الظان لذلك بقوله : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واتفقت الأمة مع ذلك على أن تارك الوقوف بعرفة لا حج له ، ونقلته عن النبي صلى الله عليه وسلم قولا وعملا . وروى بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف الحج ؟ قال : الحج يوم عرفة ، من جاء عرفة ليلة جمع قبل الصبح ، أو يوم جمع فقد تم حجه .

وروى الشعبي عن عروة بن مضرس الطائي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال بالمزدلفة : من صلى معنا هذه الصلاة ووقف معنا هذا الموقف وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا ، أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه . وقد روي عن ابن عباس وابن عمر ، وابن الزبير وجابر : " إذا وقف قبل طلوع الفجر فقد تم حجه " ، والفقهاء مجمعون على ذلك وقد اختلف الفقهاء في من لم يقف بعرفة ليلا ، فقال سائرهم : إذا وقف نهارا فقد تم حجه ، وإن دفع منها قبل غروب الشمس فعليه دم عند أصحابنا إن لم يرجع قبل الإمام ، وقال مالك بن أنس : " إن لم يرجع حتى طلع الفجر بطل حجه " وأصحابه يزعمون أنه قال ذلك ؛ لأن مذهبه أن فرض الوقوف بالليل دون النهار ، وأن الوقوف نهارا غير مفروض وإنما هو مسنون .

وروي عن ابن الزبير أن من دفع من عرفات قبل غروب الشمس فسد حجه ، والدليل على صحة القول الأول قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عروة بن مضرس وأفاض من عرفة قبل ذلك ليلا ، أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه فحكم بصحة [ ص: 389 ] حجه وإتمامه بوقوفه في أحد الوقتين من ليل ، أو نهار . ويدل عليه أيضا قوله تعالى : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس و ( حيث ) اسم للموضع ، وهو عرفات ، فكان بمنزلة قوله : أفيضوا من عرفات ولم يخصصه بليل ولا نهار ، وليس فيه ذكر للوقت ، فاقتضى ذلك جوازه في أي وقت وقف فيه . ويدل عليه من جهة النظر أنا وجدنا سائر المناسك ابتداؤها بالنهار ، وإنما يدخل فيه الليل تبعا ، ولم نجد شيئا منها يختص بالليل حتى لا يصح فعله في غيره فقول من جعل فرض الوقوف بالليل خارج عن الأصول ، ألا ترى أن طواف الزيارة ، والوقوف بالمزدلفة ، والرمي ، والذبح ، والحلق كل ذلك مفعول بالنهار ؟ وإنما يفعل بالليل على أنه يؤخر عن وقته على وجه التبع للنهار ، فوجب أن يكون ذلك حكم الوقوف بعرفة

وأيضا قد نقلت الأمة وقوف النبي صلى الله عليه وسلم نهارا إلى يومنا هذا ، وأنه دفع منها عند سقوط الفرض ، وهذا يدل على أن وقت الوقوف هو النهار ، ووقت الغروب هو الدفع ، فاستحال أن يكون الدفع هو وقت الفرض ، ووقت الوقوف لا يكون وقتا للفرض . وأيضا لما قيل يوم عرفة " ونقلت هذه التسمية عن النبي صلى الله عليه وسلم في أخبار كثيرة ، منها : إن الله تعالى يباهي ملائكته يوم عرفة ومنها : إن صيام يوم عرفة يعدل صيام سنة ولذلك أطلقت الأمة ذلك عليه ، دل على أن النهار وقت الفرض فيه ، وأن الوقوف ليلا إنما يفعله من وقف فائتا ؛ ألا ترى أنه لما قيل : " يوم الجمعة ، ويوم الأضحى ، ويوم الفطر " كانت هذه الأفعال واقعة في هذه الأيام نهارا ولذلك أضيفت إليها ؟ فدل ذلك على أن فرض الوقوف يوم عرفة ، وأنه يفعل ليلا على وجه القضاء لما فاته ، كما يرمي الجمار ليلا على وجه القضاء لما فاته نهارا ، وكذلك الطواف ، والذبح ، والحلق واختلف في موضع الوقوف ، فروى جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل عرفات موقف وارفعوا عن عرنة ، وكل مزدلفة موقف وارفعوا عن محسر .

وروى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كل عرفة موقف . وقال ابن عباس : " ارتفعوا عن وادي عرفة ، والمنبر عن مسيلة فما فوق ذلك موقف " ولم يختلف رواة الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع من عرفة بعد غروب الشمس ؛ وقد روي أن أهل الجاهلية كانوا يدفعون منها إذا صارت الشمس على رءوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوههم ، وأنهم كانوا يدفعون من المزدلفة بعد طلوع الشمس ، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم ودفع من عرفات بعد الغروب ومن المزدلفة قبل الطلوع .

وروى سلمة بن كهيل عن الحسن العرني عن ابن عباس قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس [ ص: 390 ] يوم عرفة فقال : يا أيها الناس ليس البر في إيجاف الخيل ولا في إيضاع الإبل ولكن سيرا حسنا جميلا ، ولا توطئوا ضعيفا ولا تؤذوا مسلما .

وروى هشام بن عروة عن أبيه عن أسامة بن زيد قال : كان سيرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يدفع من عرفات العنق ، غير أنه كان إذا وجد فجوة نص . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية