صفحة جزء
وقوله (تعالى): إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ؛ الآية؛ يدل على أن الإمامة ليست وراثة ؛ لإنكار الله (تعالى) عليهم ما أنكروه من التمليك عليهم من ليس من أهل النبوة؛ ولا الملك؛ وبين أن ذلك مستحق بالعلم؛ والقوة؛ لا بالنسب؛ ودل ذلك أيضا على أنه لا حظ للنسب مع العلم؛ وفضائل النفس؛ وأنها مقدمة عليه؛ لأن الله (تعالى) أخبر أنه اختاره عليهم لعلمه؛ وقوته؛ وإن كانوا أشرف منه نسبا؛ وذكره للجسم ههنا عبارة عن فضل قوته; لأن في العادة من كان أعظم جسما فهو أكثر قوة؛ ولم يرد بذلك عظم الجسم بلا قوة; لأن ذلك لا حظ له في القتال؛ بل هو وبال على صاحبه؛ إذا لم يكن ذا قوة فاضلة.

قوله - عز وجل -: فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف ؛ يدل على أن الشرب من النهر إنما هو الكرع فيه؛ ووضع الشفة عليه; لأنه قد كان حظر الشرب؛ وحظر الطعم منه؛ إلا لمن اغترف غرفة بيده؛ وهذا يدل على صحة قول أبي حنيفة - فيمن قال: "إن شربت من الفرات فعبدي حر" -: إنه على أن يكرع فيه؛ وإن اغترف منه؛ أو شرب بإناء؛ لم يحنث; لأن الله (تعالى) قد كان حظر عليهم الشرب من النهر؛ وحظر مع ذلك أن يطعم منه؛ واستثنى من الطعم الاغتراف؛ فحظر الشرب باق على ما كان عليه؛ فدل على أن الاغتراف ليس بشرب منه.

قوله (تعالى): لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ؛ روي عن الضحاك ؛ والسدي ؛ وسليمان بن موسى؛ أنه منسوخ بقوله (تعالى): يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين ؛ وقوله (تعالى): فاقتلوا المشركين ؛ وروي عن الحسن؛ وقتادة ؛ أنها خاصة في أهل [ ص: 168 ] الكتاب؛ الذين يقرون على الجزية؛ دون مشركي العرب; لأنهم لا يقرون على الجزية؛ ولا يقبل منهم إلا الإسلام؛ أو السيف؛ وقيل: إنها نزلت في بعض أبناء الأنصار؛ كانوا يهودا؛ فأراد آباؤهم إكراههم على الإسلام؛ وروي ذلك عن ابن عباس ؛ وسعيد بن جبير ؛ وقيل فيه: أي: لا تقولوا لمن أسلم بعد حرب: إنه أسلم مكرها; لأنه إذا رضي؛ وصح إسلامه؛ فليس بمكره.

قال أبو بكر : لا إكراه في الدين ؛ أمر في صورة الخبر؛ وجائز نزول ذلك قبل الأمر بقتال المشركين؛ فكان في سائر الكفار؛ كقوله (تعالى): ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ؛ وكقوله (تعالى): ادفع بالتي هي أحسن السيئة ؛ وقوله (تعالى): وجادلهم بالتي هي أحسن ؛ وقوله (تعالى): وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ؛ فكان القتال محظورا في أول الإسلام؛ إلى أن قامت عليهم الحجة بصحة نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فلما عاندوه بعد البيان أمر المسلمون بقتالهم؛ فنسخ ذلك عن مشركي العرب؛ بقوله (تعالى): فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ؛ وسائر الآي الموجبة لقتال أهل الشرك؛ وبقي حكمه على أهل الكتاب إذا أذعنوا بأداء الجزية؛ ودخلوا في حكم أهل الإسلام؛ وفي ذمتهم؛ ويدل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام؛ أو السيف؛ وجائز أن يكون حكم هذه الآية ثابتا في الحال على أهل الكفر; لأنه ما من مشرك إلا وهو لو تهود؛ أو تنصر؛ لم يجبر على الإسلام؛ وأقررناه على دينه بالجزية؛ وإذا كان ذلك حكما ثابتا في سائر من انتحل دين أهل الكتاب؛ ففيه دلالة على بطلان قول الشافعي ؛ حين قال: من تهود من المجوس؛ أو النصارى؛ أجبرته على الرجوع إلى دينه؛ أو إلى الإسلام.

والآية دالة على بطلان هذا القول; لأن فيها الأمر بألا نكره أحدا على الدين؛ وذلك عموم يمكن استعماله في جميع الكفار؛ على الوجه الذي ذكرنا؛ فإن قال قائل: فمشركو العرب الذين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم؛ وألا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف؛ قد كانوا مكرهين على الدين؛ ومعلوم أن من دخل في الدين مكرها فليس بمسلم؛ فما وجه إكراههم عليه؟ قيل له: إنما أكرهوا على إظهار الإسلام؛ لا على اعتقاده; لأن الاعتقاد لا يصح منا الإكراه عليه؛ ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله؛ فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم؛ إلا بحقها؛ وحسابهم على الله"؛ فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن القتال إنما كان على إظهار الإسلام؛ وأما الاعتقادات فكانت موكولة إلى الله (تعالى)؛ ولم يقتصر بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على القتال؛ [ ص: 169 ] دون أن يقيم عليهم الحجة؛ والبرهان في صحة نبوته؛ فكانت الدلائل منصوبة للاعتقاد؛ وإظهار الإسلام معا; لأن تلك الدلائل من حيث ألزمتهم اعتقاد الإسلام؛ فقد اقتضت منه الإظهار والقتال لإظهار الإسلام؛ وكان في ذلك أعظم المصالح؛ منها أنه إذا أظهر الإسلام؛ وإن كان غير معتقد له؛ فإن مجالسته للمسلمين؛ وسماعه القرآن؛ ومشاهدته لدلائل الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع ترادفها عليه؛ تدعوه إلى الإسلام؛ وتوضح عنده فساد اعتقاده؛ ومنها أن يعلم الله أن في نسلهم من يوقن ويعتقد التوحيد؛ فلم يجز أن يقتلوا؛ مع العلم بأنه سيكون في أولادهم من يعتقد الإيمان؛ وقال أصحابنا فيمن أكره من أهل الذمة على الإيمان: إنه يكون مسلما في الظاهر؛ ولا يترك والرجوع إلى دينه؛ إلا أنه لا يقتل إن رجع إلى دينه؛ ويجبر على الإسلام من غير قتل; لأن الإكراه لا يزيل عنه حكم الإسلام إذا أسلم؛ وإن كان دخوله فيه مكرها دالا على أنه غير معتقد له؛ لما وصفنا من إسلام من أسلم من المشركين بقتال النبي - صلى الله عليه وسلم.

وقوله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها"؛ فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إظهار الإسلام عند القتال إسلاما في الحكم ؛ فكذلك المكره على الإسلام من أهل الذمة؛ واجب أن يكون مسلما في الحكم؛ ولكنهم لم يقتلوا للشبهة؛ ولا نعلم خلافا على أن أسيرا من أهل الحرب لو قدم ليقتل؛ فأسلم ؛ أنه يكون مسلما؛ ولم يكن إسلامه خوفا من القتل مزيلا عنه حكم الإسلام؛ فكذلك الذمي؛ فإن قال قائل: قوله (تعالى): لا إكراه في الدين ؛ يحظر إكراه الذمي على الإسلام؛ وإذا كان الإكراه على هذا الوجه محظورا؛ وجب ألا يكون مسلما في الحكم؛ وألا يتعلق عليه حكمه؛ ولا يكون حكم الذمي في هذا حكم الحربي; لأن الحربي يجوز أن يكره على الإسلام لإبائه الدخول في الذمة؛ ومن دخل في الذمة لم يجز إكراهه على الإسلام؛ قيل له: إذا ثبت أن الإسلام لا يختلف حكمه في الإكراه؛ والطوع؛ لمن يجوز إجباره عليه؛ أشبه في هذا الوجه العتق؛ والطلاق؛ وسائر ما لا يختلف فيه حكم جده؛ وهزله؛ ثم لا يختلف بعد ذلك أن يكون الإكراه مأمورا به؛ أو مباحا؛ كما لا يختلف حكم العتق؛ والطلاق؛ في ذلك; لأن رجلا لو أكره رجلا على طلاق؛ أو عتاق ؛ ثبت حكمهما عليه؛ وإن كان المكره ظالما في إكراهه؛ منهيا عنه؛ وكونه منهيا عنه لا يبطل حكم العتق؛ والطلاق؛ عندنا؛ كذلك ما وصفنا من أمر الإكراه على الإسلام .

التالي السابق


الخدمات العلمية