صفحة جزء
ومن أبواب الربا الذي تضمنت الآية تحريمه

الرجل يكون عليه ألف درهم؛ دين مؤجل؛ فيصالحه منه على خمسمائة حالة ؛ فلا يجوز؛ وقد روى سفيان عن حميد؛ عن ميسرة قال: سألت ابن عمر : يكون لي على الرجل الدين إلى أجل؛ فأقول: عجل لي؛ وأضع عنك؛ فقال: هو ربا؛ وروي عن زيد بن ثابت أيضا النهي عن ذلك؛ وهو قول سعيد بن جبير ؛ والشعبي ؛ والحكم؛ وهو قول أصحابنا؛ وعامة الفقهاء؛ وقال ابن عباس ؛ وإبراهيم النخعي : لا بأس بذلك؛ والذي يدل على بطلان ذلك شيئان؛ أحدهما تسمية ابن عمر إياه ربا؛ وقد بينا أن أسماء الشرع توقيف؛ والثاني أنه معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضا مؤجلا؛ بزيادة مشروطة؛ فكانت الزيادة بدلا من الأجل؛ فأبطله الله (تعالى)؛ وحرمه؛ وقال: وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم ؛ وقال (تعالى): وذروا ما بقي من الربا ؛ حظر أن يؤخذ للأجل عوض؛ فإذا كانت عليه ألف درهم مؤجلة؛ فوضع عنه على أن يعجله؛ فإنما جعل الحط بحذاء الأجل؛ فكان هذا هو معنى الربا الذي نص الله (تعالى) على تحريمه؛ ولا خلاف على أنه لو كان عليه ألف درهم حالة؛ فقال له: أجلني وأزيدك فيها مائة درهم ؛ لا يجوز; لأن المائة [ ص: 187 ] عوض من الأجل؛ كذلك الحط في معنى الزيادة؛ إذ جعله عوضا من الأجل؛ وهذا هو الأصل في امتناع جواز أخذ الأبدال عن الآجال ؛ ولذلك قال أبو حنيفة - فيمن دفع إلى خياط ثوبا فقال: إن خطته اليوم فلك درهم؛ وإن خطته غدا فلك نصف درهم -: إن الشرط الثاني باطل؛ فإن خاطه غدا فله أجر مثله; لأنه جعل الحط بحذاء الأجل؛ والعمل في الوقتين؛ على صفة واحدة"؛ فلم يجزه; لأنه بمنزلة بيع الأجل؛ على النحو الذي بيناه؛ ومن أجاز من السلف إذا قال: عجل لي وأضع عنك؛ فجائز أن يكون أجازوه إذا لم يجعله شرطا فيه؛ وذلك بأن يضع عنه بغير شرط؛ ويعجل الآخر الباقي بغير شرط.

وقد ذكرنا الدلالة على أن التفاضل قد يكون ربا؛ على حسب ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأصناف الستة؛ وأن النساء قد يكون ربا في البيع؛ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم؛ يدا بيد"؛ وقوله: "إنما الربا في النسيئة"؛ وأن السلم في الحيوان قد يكون ربا؛ بقوله: "إنما الربا في النسيئة"؛ وقوله: "إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم؛ يدا بيد"؛ وتسمية عمر إياه ربا؛ وشراء ما بيع بأقل من ثمنه قبل نقد الثمن ؛ لما بينا؛ وشرط التعجيل مع الحط.

وقد اتفق الفقهاء على تحريم التفاضل في الأصناف الستة ؛ التي ورد بها الأثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من جهات كثيرة؛ وهو عندنا في حيز التواتر; لكثرة رواته واتفاق الفقهاء على استعماله؛ واتفقوا أيضا في أن مضمون هذا النص معني به تعلق الحكم؛ يجب اعتباره في غيره؛ واختلفوا فيه بعد اتفاقهم على اعتبار الجنس على الوجوه التي ذكرنا فيما سلف من هذا الباب؛ وأن حكم تحريم التفاضل غير مقصور على الأصناف الستة؛ وقد قال قوم - هم شذوذ عندنا؛ لا يعدون خلافا -: إن حكم تحريم التفاضل مقصور على الأصناف التي ورد فيها التوقيف؛ دون تحريم غيرها؛ ولما ذهب إليه أصحابنا في اعتبار الكيل؛ والوزن دلائل من الأثر والنظر؛ وقد ذكرناها في مواضع؛ ومما يدل عليه من فحوى الخبر قوله: " الذهب بالذهب؛ مثلا بمثل؛ وزنا بوزن؛ والحنطة بالحنطة؛ مثلا بمثل؛ كيلا بكيل "؛ فأوجب استيفاء المماثلة بالوزن في الموزون؛ وبالكيل في المكيل؛ فدل ذلك على أن الاعتبار في التحريم الكيل؛ والوزن؛ مضموما إلى الجنس.

ومما يحتج به المخالف من الآية؛ على اعتبار الأكل؛ قوله - عز وجل -: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ؛ وقوله (تعالى): لا تأكلوا الربا ؛ فأطلق اسم الربا على المأكول؛ قالوا: فهذا عموم في إثبات الربا في المأكول؛ وهذا عندنا لا يدل [ ص: 188 ] على ما قالوا من وجوه؛ أحدها ما قدمنا من إجمال لفظ الربا في الشرع ؛ وافتقاره إلى البيان؛ فلا يصح الاحتجاج بعمومه؛ وإنما يحتاج إلى أن يثبت بدلالة أخرى أنه ربا حتى يحرمه بالآية ولا يأكله؛ والثاني أن أكثر ما فيه إثبات الربا في مأكول؛ وليس فيه أن جميع المأكولات فيها ربا؛ ونحن قد أثبتنا الربا في كثير من المأكولات؛ وإذا فعلنا ذلك فقد قضينا عهدة الآية؛ ولما ثبت بما قدمنا من التوقيف؛ والاتفاق على تحريم بيع ألف بألف ومائة ؛ كما بطل بيع ألف بألف إلى أجل ؛ فجرى الأجل المشروط مجرى النقصان في المال؛ وكان بمنزلة بيع ألف بألف ومائة ؛ وجب ألا يصح الأجل في القرض ؛ كما لا يجوز قرض ألف بألف ومائة ؛ إذ كان نقصان الأجل كنقصان الوزن؛ وكان الربا تارة من جهة نقصان الوزن؛ وتارة من جهة نقصان الأجل؛ وجب أن يكون القرض كذلك.

فإن قال قائل: ليس القرض في ذلك كالبيع; لأنه يجوز له مفارقته في القرض قبل قبض البدل؛ ولا يجوز مثله في بيع ألف بألف؛ قيل له: إنما يكون الأجل نقصانا إذا كان مشروطا؛ فأما إذا لم يكن مشروطا فإن ترك القبض لا يوجب نقصا في أحد المالين؛ وإنما بطل البيع لمعنى آخر غير نقصان أحدهما عن الآخر؛ ألا ترى أنه لا يختلف الصنفان؛ والصنف الواحد؛ في وجوب التقايض في المجلس؛ أعني الذهب بالفضة؛ مع جواز التفاضل فيهما؟ فعلمنا أن الموجب لقبضهما ليس من جهة أن ترك القبض موجب للنقصان في غير المقبوض؛ ألا ترى أن رجلا لو باع من رجل عبدا بألف درهم؛ ولم يقبض ثمنه سنين؛ جاز للمشتري بيعه مرابحة على ألف حالة ؛ ولو كان باعه بألف إلى شهر؛ ثم حل الأجل؛ لم يكن للمشتري بيعه مرابحة على ألف حالة؛ حتى يبين أنه اشتراه بثمن مؤجل؟ فدل ذلك على أن الأجل المشروط في العقد يوجب نقصا في الثمن؛ ويكون بمنزلة نقصان الوزن في الحكم؛ فإذا كان كذلك فالتشبيه بين القرض؛ والبيع؛ من الوجه الذي ذكرنا؛ صحيح؛ لا يعترض عليه هذا السؤال؛ ويدل على بطلان التأجيل فيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الربا في النسيئة"؛ ولم يفرق بين البيع؛ والقرض؛ فهو على الجميع؛ ويدل عليه أن القرض لما كان تبرعا؛ لا يصح إلا مقبوضا؛ أشبه الهبة؛ فلا يصح فيه التأجيل؛ كما لا يصح في الهبة؛ وقد أبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - التأجيل فيها بقوله: "من أعمر عمرى فهي له؛ ولورثته من بعده"؛ فأبطل التأجيل المشروط في الملك؛ وأيضا فإن قرض الدراهم عاريتها؛ وعاريتها قرضها; لأنها تمليك المنافع؛ إذ لا يصل إليها إلا باستهلاك عينها؛ ولذلك قال أصحابنا: إذا [ ص: 189 ] أعاره دراهم فإن ذلك قرض؛ ولذلك لم يجيزوا استئجار الدراهم ; لأنها قرض؛ فكأنه استقرض دراهم على أن يرد عليه أكثر منها؛ فلما لم يصح الأجل في العارية لم يصح في القرض؛ ومما يدل على أن قرض الدراهم عارية حديث إبراهيم الهجري؛ عن أبي الأحوص ؛ عن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تدرون أي الصدقة خير؟"؛ قالوا: الله ورسوله أعلم؛ قال: "خير الصدقة المنحة؛ أن تمنح أخاك الدراهم؛ أو ظهر الدابة؛ أو لبن الشاة"؛ والمنحة هي العارية; فجعل قرض الدراهم عاريتها; ألا ترى إلى قوله في حديث آخر: " والمنحة مردودة "؟ فلما لم يصح التأجيل في العارية لم يصح في القرض؛ وأجاز الشافعي التأجيل في القرض ؛ وبالله التوفيق؛ ومنه الإعانة.

التالي السابق


الخدمات العلمية