صفحة جزء
باب عقود المداينات

قال الله (تعالى): يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ؛ قال أبو بكر : ذهب قوم إلى أن الكتاب؛ والإشهاد على الديون الآجلة؛ قد كانا واجبين؛ بقوله (تعالى): فاكتبوه إلى قوله: واستشهدوا شهيدين من رجالكم ؛ ثم نسخ الوجوب بقوله (تعالى): فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ؛ روي ذلك عن أبي سعيد الخدري ؛ والشعبي ؛ والحسن ؛ وقال آخرون: هي محكمة؛ لم ينسخ منها شيء؛ وروى عاصم الأحول؛ وداود بن أبي هند ؛ عن عكرمة قال: قال ابن عباس : "لا والله؛ إن آية الدين محكمة؛ وما فيها نسخ"؛ وقد روى شعبة عن فراس؛ عن الشعبي ؛ عن أبي بردة ؛ عن أبي موسى قال: " ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم؛ رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها؛ ورجل أعطى ماله سفيها؛ وقد قال الله (تعالى): ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ؛ ورجل له على رجل دين ولم يشهد عليه به "؛ قال أبو بكر : وقد روي هذا الحديث مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وروى جويبر عن الضحاك : "إن ذهب حقه لم يؤجر؛ وإن دعا عليه لم يجب; لأنه ترك حق الله؛ وأمره.

وقال سعيد بن جبير : وأشهدوا إذا تبايعتم ؛ يعني وأشهدوا على حقوقكم؛ إذا كان فيها أجل؛ أو لم يكن فيها أجل؛ فأشهد على حقك على كل حال"؛ وقال ابن جريج : سئل عطاء : أيشهد الرجل على أن بايع بنصف درهم؟ قال: نعم؛ هو تأويل قوله (تعالى): وأشهدوا إذا تبايعتم ؛ وروى مغيرة؛ عن إبراهيم قال: "يشهد ولو على دستجة بقل"؛ وقد روي عن الحسن؛ والشعبي : "إن شاء أشهد؛ وإن شاء لم يشهد؛ لقوله (تعالى): فإن أمن بعضكم بعضا "؛ وروى ليث عن مجاهد أن ابن عمر كان إذا باع أشهد؛ ولم يكتب؛ وهذا يدل على أنه رآه ندبا; لأنه لو كان واجبا لكانت الكتابة مع الإشهاد; لأنهما مأمور بهما في الآية؛ قال أبو بكر : لا يخلو قوله (تعالى): فاكتبوه ؛ إلى قوله (تعالى): واستشهدوا شهيدين من رجالكم ؛ وقوله (تعالى): وأشهدوا إذا تبايعتم ؛ من أن يكون موجبا للكتابة؛ والإشهاد على الديون الآجلة في حال نزولها؛ وكان هذا حكما مستقرا ثابتا؛ إلى أن ورد نسخ إيجابه بقوله (تعالى): فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ؛ [ ص: 206 ] أو أن يكون نزول الجميع معا؛ فإن كان كذلك فغير جائز أن يكون المراد بالكتابة والإشهاد الإيجاب؛ لامتناع ورود الناسخ والمنسوخ معا في شيء واحد؛ إذ غير جائز نسخ الحكم قبل استقراره؛ ولما لم يثبت عندنا تاريخ نزول هذين الحكمين من قوله (تعالى): وأشهدوا إذا تبايعتم ؛ وقوله (تعالى): فإن أمن بعضكم بعضا ؛ وجب الحكم بورودهما معا؛ فلم يرد الأمر بالكتابة؛ والإشهاد إلا مقرونا بقوله (تعالى): فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ؛ فثبت بذلك أن الأمر بالكتابة والإشهاد ندب؛ غير واجب.

وما روي عن ابن عباس من أن آية الدين محكمة؛ لم ينسخ منها شيء؛ لا دلالة فيه على أنه رأى الإشهاد واجبا; لأنه جائز أن يريد أن الجميع ورد معا؛ فكان في نسق التلاوة ما أوجب أن يكون الإشهاد ندبا؛ وهو قوله (تعالى): فإن أمن بعضكم بعضا ؛ وما روي عن ابن عمر أنه كان يشهد؛ وعن إبراهيم؛ وعطاء ؛ أنه يشهد على القليل؛ كله عندنا أنهم رأوه ندبا؛ لا إيجابا.

وما روي عن أبي موسى : "ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم"؛ أحدهم من له على رجل دين؛ ولم يشهد؛ فلا دلالة على أنه رآه واجبا؛ ألا ترى أنه ذكر معه من له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها؟ ولا خلاف أنه ليس بواجب على من له امرأة سيئة الخلق أن يطلقها؛ وإنما هذا القول منه على أن فاعل ذلك تارك للاحتياط؛ والتوصل إلى ما جعل الله (تعالى) له فيه المخرج والخلاص؛ ولا خلاف بين فقهاء الأمصار أن الأمر بالكتابة؛ والإشهاد؛ والرهن؛ المذكور جميعه في هذه الآية ندب؛ وإرشاد إلى ما لنا فيه الحظ والصلاح والاحتياط للدين والدنيا؛ وأن شيئا منه غير واجب.

وقد نقلت الأمة خلفا عن سلف؛ عقود المداينات؛ والأشرية؛ والبياعات؛ في أمصارهم من غير إشهاد؛ مع علم فقهائهم بذلك؛ من غير نكير منهم عليهم؛ ولو كان الإشهاد واجبا لما تركوا النكير على تاركه؛ مع علمهم به؛ وفي ذلك دليل على أنهم رأوه ندبا؛ وذلك منقول من عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا؛ ولو كانت الصحابة والتابعون تشهد على بياعاتها؛ وأشريتها؛ لورد النقل به متواترا مستفيضا؛ ولأنكرت على فاعله ترك الإشهاد؛ فلما لم ينقل عنهم الإشهاد بالنقل المستفيض؛ ولا إظهار النكير على تاركه من العامة؛ ثبت بذلك أن الكتاب؛ والإشهاد في الديون؛ والبياعات ؛ غير واجبين.

وقوله (تعالى): فاكتبوه ؛ مخاطبة لمن جرى ذكره في أول الآية؛ وهو يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين ؛ فإنما أمر بذلك المتداينين؛ فإن قيل: ما وجه قوله (تعالى): بدين ؛ والتداين لا يكون إلا بدين؟ قيل له: [ ص: 207 ] لأن قوله (تعالى): تداينتم ؛ لفظ مشترك؛ يحتمل أن يكون من الدين؛ الذي هو الجزاء؛ كقوله (تعالى): مالك يوم الدين ؛ يعني يوم الجزاء؛ فيكون بمعنى تجازيتم؛ فأزال الاشتراك عن اللفظ؛ بقوله (تعالى): بدين ؛ وقصره على المعاملة بالدين؛ وجائز أن يكون على جهة التأكيد؛ وتمكين المعنى في النفس؛ وقوله (تعالى): إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى ؛ ينتظم سائر عقود المداينات التي يصح فيها الآجال؛ ولا دلالة فيه على جواز التأجيل في سائر الديون; لأن الآية ليس فيها بيان جواز التأجيل في سائر الديون؛ وإنما فيها الأمر بالإشهاد إذا كان دينا مؤجلا؛ ثم يحتاج أن يعلم بدلالة أخرى جواز التأجيل في الدين؛ وامتناعه؛ ألا ترى أنها لم تقتض جواز دخول الأجل على الدين بالدين ؛ حتى يكونا جميعا مؤجلين؟ وهو بمنزلة قوله: "من أسلم فليسلم في كيل معلوم؛ ووزن معلوم؛ إلى أجل معلوم"؛ لا دلالة فيه على جواز السلم في سائر المكيلات؛ والموزونات بالآجال المعلومة؛ وإنما ينبغي أن يثبت جوازه في المكيل والموزون المعلوم الجنس؛ والنوع؛ والصفة؛ بدلالة أخرى؛ وإذا ثبت أنه مما يجوز السلم فيه احتجنا بعد ذلك إلى أن نسلم فيه إلى أجل معلوم؛ وكما تدل الآية على جواز عقود المداينات ؛ ولم يصح الاستدلال بعمومها في إجازة سائر عقود المداينات; لأن الآية إنما فيها الأمر بالإشهاد إذا صحت المداينة؛ كذلك لا تدل على جواز شرط الأجل في سائر الديون؛ وإنما فيها الأمر بالإشهاد إذا صح الدين والتأجيل فيه .

وقد احتج بعضهم في جواز التأجيل في القرض بهذه الآية؛ إذ لم تفرق بين القرض؛ وسائر عقود المداينات؛ وقد علمنا أن القرض مما شمله الاسم؛ وليس ذلك عندنا كما ذكر; لأنه لا دلالة فيها على جواز كل دين؛ ولا على جواز التأجيل في جميعها؛ وإنما فيها الأمر بالإشهاد على دين قد ثبت فيه التأجيل؛ لاستحالة أن يكون المراد به الإشهاد على ما لم يثبت من الديون؛ ولا من الآجال؛ فوجب أن يكون مراده إذا تداينتم بدين ؛ قد ثبت فيه التأجيل؛ فاكتبوه؛ فالمستدل به على جواز تأجيل القرض مغفل في استدلاله؛ ومما يدل على أن القرض لم يدخل فيه؛ أن قوله (تعالى): إذا تداينتم بدين ؛ قد اقتضى عقد المداينة؛ وليس القرض بعقد مداينة؛ إذ لا يصير دينا بالعقد دون القبض؛ فوجب أن يكون القرض خارجا منه.

قال أبو بكر : وقوله (تعالى): إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى ؛ قد اشتمل على كل دين ثابت؛ مؤجل؛ سواء كان بدله عينا؛ أو دينا؛ فمن اشترى دارا؛ أو عبدا بألف درهم؛ إلى أجل كان [ ص: 208 ] مأمورا بالكتاب؛ والإشهاد؛ بمقتضى الآية؛ وقد دلت الآية على أنها مقصورة في دين مؤجل في أحد البدلين؛ لا فيهما جميعا; لأنه (تعالى) قال: إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى ؛ ولم يقل: بدينين؛ فإنما أثبت الأجل في أحد البدلين؛ فغير جائز وجود الأجل في البدلين جميعا.

وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الدين بالدين ؛ وأما إذا كانا دينين بالعقد فهذا جائز في السلم؛ وفي الصرف؛ إلا أن ذلك مقصور على المجلس؛ ولا يمتنع أن يكون السلم مرادا بالآية; لأن التأجيل في أحد البدلين؛ وهو السلم.

وقد أمر الله (تعالى) بالإشهاد على عقد مداينة موجب لدين مؤجل؛ وقد روى قتادة عن أبي حسان ؛ عن ابن عباس قال: "أشهد أن السلم المؤجل في كتاب الله؛ وأنزل فيه أطول آية في كتاب الله: يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه "؛ فأخبر ابن عباس أن السلم المؤجل مما انطوى تحت عموم الآية؛ وعلى هذا كل دين ثابت مؤجل؛ فهو مراد بالآية؛ سواء كان من أبدال المنافع؛ أو الأعيان؛ نحو الأجرة المؤجلة في عقود الإجارات؛ والمهر؛ إذا كان مؤجلا؛ وكذلك الخلع ؛ والصلح من دم العمد؛ والكتابة المؤجلة; لأن هذه ديون مؤجلة ثابتة بعقد مداينة؛ وقد بينا أن الآية إنما اقتضت هذا الحكم في أحد البدلين إذا كان مؤجلا؛ لا فيهما; لأنه قال: إذا تداينتم بدين إلى أجل ؛ فكل عقد انتظمته الآية فهو العقد الذي ثبت به دين مؤجل؛ ولم تفرق بين أن يكون ذلك الدين بدلا من منافع؛ أو أعيان؛ فوجب أن يكون جميع المندوب إليه من الكتاب؛ والإشهاد مرادا بها هذه العقود كلها؛ وأن يكون ما ذكر من عدد الشهود؛ وأوصاف الشهادة؛ معتبرا في سائرها؛ إذ ليس في اللفظ تخصيص شيء منه دون غيره؛ فيوجب ذلك جواز شهادة الرجل والمرأتين في النكاح؛ إذا كان المهر دينا مؤجلا؛ وفي الخلع ؛ والإجارة؛ والصلح من دم العمد؛ وسائر ما كان هذا وصفه؛ وغير جائز الاقتصار بهذه الأحكام على بعض الديون المؤجلة دون بعض؛ مع شمول الآية لجميعها.

وقوله (تعالى): إلى أجل مسمى ؛ يعني معلوما؛ وقد روي ذلك عن جماعة من السلف؛ وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أسلم فليسلم في كيل معلوم؛ ووزن معلوم؛ إلى أجل معلوم".

وقوله (تعالى): وليكتب بينكم كاتب بالعدل ؛ فيه أمر لمن تولى كتابة الوثائق بين الناس أن يكتبها بالعدل بينهم؛ والكتاب - وإن لم يكن حتما - فإن سبيله إذا كتب أن يكتب على حد العدل؛ والاحتياط؛ والتوثق من الأمور التي من أجلها يكتب الكتاب؛ بأن يكون شرطا صحيحا جائزا؛ على ما توجبه الشريعة [ ص: 209 ] وتقتضيه؛ وعليه التحرز من العبارات المحتملة للمعاني؛ وتجنب الألفاظ المشتركة؛ وتحري تحقيق المعاني بألفاظ مبينة؛ خارجة عن حد الشركة؛ والاحتمال؛ والتحرز من خلاف الفقهاء؛ ما أمكن؛ حتى يحصل للمتداينين معنى الوثيقة؛ والاحتياط؛ المأمور بهما في الآية؛ ولذلك قال (تعالى) - عقيب الأمر بالكتاب -: ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله ؛ يعني - والله أعلم - ما بينه من أحكام العقود الصحيحة؛ والمداينات الثابتة الجائزة؛ لكي يحصل لكل واحد من المتداينين ما قصد من تصحيح عقد المداينة؛ ولأن الكاتب بذلك إذا كان جاهلا بالحكم لا يأمن أن يكتب ما يفسد عليهما ما قصداه؛ ويبطل ما تعاقداه؛ والكتاب - وإن لم يكن حتما؛ وكان ندبا وإرشادا إلى الأحوط - فإنه متى كتب فواجب أن يكون على هذه الشريطة؛ كما قال - عز وجل -: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ؛ فانتظم ذلك صلاة الفرض؛ والنفل جميعا؛ ومعلوم أن النفل غير واجب عليه؛ ولكنه متى قصد فعلها وهو محدث فعليه ألا يفعلها إلا بشرائطها؛ من الطهارة؛ وسائر أركانها؛ وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أسلم فليسلم في كيل معلوم؛ ووزن معلوم؛ إلى أجل معلوم"؛ والسلم ليس بواجب؛ ولكنه متى أراد أن يسلم فعليه استيفاء الشرائط؛ فكذلك كتاب الدين؛ والإشهاد؛ ليسا بواجبين؛ ولكنه متى كتب فعلى الكاتب أن يكتبه على الوجه الذي أمره الله (تعالى) به؛ وأن يستوفي فيه شروط صحته؛ ليحصل المعنى المقصود بكتابته.

وقد اختلف السلف في لزوم الكاتب الكتابة ؛ فروي عن الشعبي أنه قال: هو واجب على الكفاية؛ كالجهاد؛ ونحوه؛ وقال السدي : واجب على الكاتب في حال فراغه؛ وقال عطاء ؛ ومجاهد : هو واجب؛ وقال الضحاك : نسختها ولا يضار كاتب ولا شهيد .

قال أبو بكر : قد بينا أن الكتاب غير واجب في الأصل على المتداينين؛ فكيف يكون واجبا على الأجنبي الذي لا حكم له في هذا العقد؛ ولا سبب له فيه؟ وعسى أن يكون من رآه واجبا ذهب إلى أن الأصل واجب؛ فكذلك على من يحسن الكتابة أن يقوم بها لمن يجب ذلك عليه؛ والأصل - وإن لم يكن واجبا عندنا - فإن المتداينين متى قصدا إلى ما ندبهما إليه من الاستيثاق بالكتاب؛ ولم يكونا عالمين بذلك؛ فإنه فرض على من علم ذلك أن يبينه لهما؛ وليس عليه أن يكتبه ولكن يبينه حتى يكتباه؛ أو يكتبه لهما أجير؛ أو متبرع؛ بإملاء من يعلمه؛ كما لو أراد إنسان أن يصوم صوما تطوعا؛ أو يصلي صلاة تطوع؛ ولم يعرف أحكامهما؛ كان على العالم بذلك إذا سئل أن يبينه لسائله؛ وإن لم تكن هذه الصلاة؛ والصوم فرضا; لأن على العلماء بيان النوافل [ ص: 210 ] والمندوب إليه إذا سئلوا عنها؛ كما أن عليهم بيان الفروض؛ وقد كان على النبي - صلى الله عليه وسلم - بيان النوافل والمندوب إليه؛ كما أن عليه بيان الفروض.

قال الله (تعالى): يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ؛ وقال (تعالى): لتبين للناس ما نزل إليهم ؛ وفيما أنزل الله (تعالى) على نبيه أحكام النوافل؛ فكان عليه بيانها لأمته؛ كبيان الفروض؛ وقد نقلت الأمة عن نبيها - صلى الله عليه وسلم - بيان المندوب إليه؛ كما نقلت عنه بيان الفروض؛ وإذا كان كذلك فعلى من علم علما من فرض؛ أو نفل؛ ثم سئل عنه ؛ أن يبينه لسائله؛ وقال الله (تعالى): وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم ؛ وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار"؛ فعلى هذا الوجه يلزم من عرف الوثائق والشروط بيانها لسائلها؛ على حسب ما يلزمه بيان سائر علوم الدين والشريعة؛ وهذا فرض لازم للناس على الكفاية؛ إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين؛ فأما أن يلزمه أن يتولى الكتابة بيده فهذا ما لا أعلم أحدا يقوله؛ اللهم إلا ألا يوجد من يكتبه؛ فغير ممتنع أن يقول قائل: عليه كتبه؛ ولو كان كتب الكتاب فرضا على الكاتب لما كان الاستئجار يجوز عليه; لأن الاستئجار على فعل الفروض باطل؛ لا يصح؛ فلما لم يختلف الفقهاء في جواز أخذ الأجرة على كتب كتاب الوثيقة دل ذلك على أن كتبه ليس بفرض؛ لا على الكفاية؛ ولا على التعيين.

قوله (تعالى): ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله ؛ نهي للكاتب أن يكتب على خلاف العدل الذي أمر الله (تعالى) به؛ وهذا النهي على الوجوب؛ إذا كان المراد به كتبه على خلاف ما توجبه أحكام الشرع ؛ كما تقول: لا تصل النفل على غير طهارة؛ ولا غير مستور العورة؛ ليس ذلك أمرا بالصلاة النافلة؛ ولا نهيا عن فعلها مطلقا؛ وإنما هو نهي عن فعلها على غير شرائطها المشروطة لها؛ وكذلك قوله (تعالى): ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب ؛ هو نهي عن كتبه على خلاف الجائز منه؛ إذ ليست الكتابة في الأصل واجبة عليه؛ ألا ترى أن قول القائل: "لا تأب أن تصلي النافلة بطهارة؛ وستر العورة"؛ ليس فيه إيجاب منه للنافلة؟ فكذلك ما وصفنا.

وقوله (تعالى): وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا ؛ فيه إثبات إقرار الذي عليه الحق؛ وإجازة ما أقر به؛ وإلزامه إياه ; لأنه لولا جواز إقراره إذا أقر؛ لم يكن إملاء الذي عليه الحق بأولى من إملاء غيره من الناس؛ فقد تضمن ذلك جواز إقرار كل مقر بحق عليه ؛ وقوله - عز وجل -: وليتق الله [ ص: 211 ] ربه ولا يبخس منه شيئا ؛ يدل على أن كل من أقر بشيء لغيره فالقول قوله فيه; لأن البخس هو النقص؛ فلما وعظه الله (تعالى) في ترك البخس دل ذلك على أنه إذا بخس كان قوله مقبولا; وهو نظير قوله (تعالى): ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ؛ لما وعظهن في الكتمان دل على أن المرجع فيه إلى قولهن؛ وكقوله (تعالى): ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ؛ قد دل ذلك على أنهم متى كتموها كان القول قولهم فيها؛ وكذلك وعظه الذي عليه الحق في ترك البخس دليل على أن المرجع إلى قوله فيما عليه؛ وقد ورد الأثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثل ما دل عليه الكتاب؛ وهو قوله: "البينة على المدعي؛ واليمين على المدعى عليه"؛ فجعل القول قول من ادعي عليه؛ دون المدعي؛ وأوجب عليه اليمين؛ وهو معنى قوله (تعالى): ولا يبخس منه شيئا ؛ في إيجاب الرجوع إلى قوله.

واحتج بعضهم بهذه الآية على أن القول قول المطلوب في الأجل ; لأن الله (تعالى) رد الإملاء إليه؛ ووعظه في البخس؛ بقوله (تعالى): ولا يبخس منه شيئا ؛ في صدقه في مبلغ المال؛ فيقال: إنما وعظه في البخس؛ وهو النقصان؛ ويستحيل وعظ المطلوب في بخس الأجل ونقصانه؛ وهو لو أسقط الأجل كله بعد ثبوته لبطل؛ كما لا يوعظ الطالب في نقصان ماله؛ إذ لو أبرأه من جميعه لصحت براءته؛ فلما كان ذلك كذلك علمنا أن المراد البخس في مقدار الديون؛ لا في الأجل؛ فليس إذا في الآية دليل على أن القول قول المطلوب في الأجل ؛ فإن قيل: إثبات الأجل في المال يوجب نقصانه؛ فلما كان القول قول المطلوب في نقصان المال ومقداره؛ وجب أن يكون القول قوله في الأجل؛ لما فيه من بخس المال ونقصانه؛ إذ قد تضمنت الآية تصديقه في بخسه؛ والبخس تارة يكون بنقصان المقدار؛ وتارة بنقصان الصفة من أجل رداءة في المقر به؛ قيل له: لما قال (تعالى): وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا ؛ اقتضى ذلك النهي عن بخس الحق نفسه؛ فكان تقديره: "ولا يبخس من الدين شيئا"؛ ومدعي الأجل غير باخس من الدين؛ ولا ناقص له؛ إذ كان بخس الدين هو نقصان مقداره؛ وليس الأجل هو الدين؛ ولا بعضه؛ وإذا كان كذلك فلا دلالة في الآية على تصديقه على دعوى الأجل؛ ويدلك على أن الأجل ليس من الدين أن الدين قد يحل ويبطل الأجل؛ ويكون هو ذلك الدين؛ وقد يسقط الأجل ويعجل الدين؛ فيكون الذي عجل هو الدين الذي كان مؤجلا؛ وإذا كان ذلك كذلك؛ ثم قال (تعالى): ولا يبخس منه شيئا ؛ يعني من الدين شيئا؛ لم يتناول ذلك [ ص: 212 ] الأجل؛ ولم يدل عليه؛ ومن جهة أخرى أن الأجل إنما يوجب نقصا فيه من طريق الحكم; لأن المقبوض بعد الأجل؛ وقبله؛ إذا كان على صفة واحدة فقد علمت أنه لا تأثير له في نقصان المقبوض؛ وإنما يقال: إنه نقص فيه من طريق الحكم؛ على المجاز؛ لا على الحقيقة؛ وقد تناولت الآية البخس الذي هو حقيقة؛ وهو نقصان المقدار؛ ونقصانه في نفسه من رداءة؛ أو غبن؛ أو غيرهما؛ نحو إقراره بالدراهم السود؛ والحنطة الرديئة؛ فإن ذلك كله بخس من جهة الحقيقة؛ لاختلاف صفات المقبوض عنه؛ فلم يجز أن يتناول بعض الأجل الذي ليس بحقيقة فيه؛ بل هو مجاز; لأن اللفظ متى أريد به الحقيقة انتفى دخول المجاز فيه.

وفي هذه الآية دلالة على أن القول قول الطالب في الأجل ; لأنه ابتدأ الخطاب بقوله (تعالى): إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ؛ إلى قوله: واستشهدوا شهيدين من رجالكم ؛ اقتضى ذلك الإشهاد على المتداينين جميعا؛ إذا كان المال مؤجلا؛ فلو كان القول قول المطلوب في الأجل لما احتيج إلى الإشهاد به على الطالب؛ وفي وجوب الإشهاد على الطالب بالتأجيل دلالة على أن القول قوله؛ وأن المطلوب غير مصدق عليه; إذ لو كان مصدقا فيه لما بقي للإشهاد على الطالب موضع؛ ولا معنى؛ فإن قال قائل: إنما حكم الإشهاد مقصور على المطلوب دون الطالب؛ قيل له: هذا خلاف مقتضى الآية; لأنه قال (تعالى): إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى ؛ ثم عطف عليه قوله (تعالى): واستشهدوا شهيدين من رجالكم ؛ فخاطب المتداينين جميعا؛ وأمرهما بالاستشهاد؛ فلو جاز لقائل أن يقول: إن المطلوب مخصوص به؛ لجاز لآخر أن يقول: هو مقصور على الطالب؛ دون المطلوب؛ فلما لم يصح ذلك وجب بظاهر الآية أن يكون الإشهاد عليهما جميعا؛ وأن يكونا مندوبين إليه؛ وإذا ثبت ذلك لم يكن للإشهاد على الطالب بالدين المؤجل حكم; لأنه مقبول القول في نفيه؛ دل ذلك على أن المرجع إلى قوله في الأجل؛ وإنما جعل الله (تعالى) الإملاء إلى المطلوب إذا أحسن ذلك؛ وإن كان لو أملى غيره؛ وأقر المطلوب به جاز; لأنه أثبت في الإقرار؛ وأذكر للشهود؛ متى أرادوا أن يتذكروا الشهادة؛ وكان الإملاء سببا للاستذكار؛ كما أمر (تعالى) باستشهاد امرأتين لتذكر إحداهما الأخرى؛ والله (تعالى) أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية