صفحة جزء
باب الحجر على السفيه

قال الله (تعالى): فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو [ ص: 213 ] فليملل وليه بالعدل ؛ قد احتج كل فريق من موجبي الحجر على السفيه ؛ ومن مبطليه بهذه الآية؛ فاحتج مثبتو الحجر للسفيه بقوله (تعالى): فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل ؛ فأجاز لولي السفيه الإملاء عنه؛ واحتج مبطلو الحجر بما في مضمون الآية من جواز مداينة السفيه؛ بقوله (تعالى): يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ؛ إلى قوله (تعالى): فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا ؛ فأجاز مداينة السفيه؛ وحكم بصحة إقراره في مداينته؛ وإنما خالف بينه وبين غيره في إملاء الكتاب؛ لقصور فهمه عن استيفاء ما له؛ وما عليه؛ مما يقتضيه شرط الوثيقة؛ وقالوا: إن قوله (تعالى): فليملل وليه بالعدل ؛ إنما المراد به ولي الدين؛ وقد روي ذلك عن جماعة من السلف؛ قالوا: وغير جائز أن يكون المراد ولي السفيه على معنى الحجر عليه؛ وإقراره بالدين عليه; لأن إقرار ولي المحجور عليه غير جائز عليه عند أحد؛ فعلمنا أن المراد ولي الدين؛ فأمر بإملاء الكتاب حتى يقر به المطلوب الذي عليه الدين.

قال أبو بكر : اختلف السلف في السفيه المراد بالآية؛ فقال قائلون منهم: هو الصبي؛ روي ذلك عن الحسن؛ في قوله (تعالى): ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ؛ قال: الصبي؛ والمرأة؛ وقال مجاهد : النساء؛ وقال الشعبي : لا تعطى الجارية مالها؛ وإن قرأت القرآن والتوراة؛ وهذا محمول على التي لا تقوم بحفظ المال; لأنه لا خلاف أنها إذا كانت ضابطة لأمرها؛ حافظة لمالها؛ دفع إليها؛ إذا كانت بالغا؛ قد دخل بها زوجها؛ وقد روي عن عمر أنه قال: لا تجوز لامرأة مملكة عطية؛ حتى تحيل في بيت زوجها حولا؛ أو تلد بطنا؛ وروي عن الحسن مثله؛ وقال أبو الشعثاء : لا تجوز لامرأة عطية حتى تلد؛ أو يؤنس رشدها؛ وعن إبراهيم مثله؛ وهذا كله محمول على أنه لم يؤنس رشدها; لأنه لا خلاف أن هذا ليس بحد في استحقاق دفع المال إليها; لأنها لو أحالت حولا في بيت زوجها؛ وولدت بطونا؛ وهي غير مؤنسة للرشد؛ ولا ضابطة لأمرها؛ لم يدفع إليها مالها؛ فعلمنا أنهم إنما أرادوا ذلك فيمن لم يؤنس رشدها.

وقد ذكر الله (تعالى) السفه في مواضع؛ منها ما أراد به السفه في الدين؛ وهو الجهل به؛ في قوله (تعالى): ألا إنهم هم السفهاء ؛ وقوله (تعالى): سيقول السفهاء من الناس ؛ فهذا هو السفه في الدين؛ وهو الجهل؛ والخفة؛ وقال (تعالى): ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ؛ فمن الناس من تأوله على أموالهم؛ كما قال (تعالى): ولا تقتلوا أنفسكم ؛ يعني: "لا يقتل بعضكم بعضا"؛ وقال (تعالى): فاقتلوا أنفسكم ؛ والمعنى: [ ص: 214 ] "ليقتل بعضكم بعضا"؛ وهذا الذي ذكره هذا القائل عدول عن حقيقة اللفظ وظاهره؛ بغير دلالة; لأن قوله (تعالى): ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ؛ يشتمل على فريقين من الناس؛ كل واحد منهما مميز في اللفظ من الآخر؛ وأحد الفريقين هم المخاطبون بقوله (تعالى): ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ؛ والفريق الآخر السفهاء المذكورون معهم؛ فلما قال (تعالى): أموالكم ؛ وجب أن ينصرف ذلك إلى أموال المخاطبين؛ دون السفهاء؛ وغير جائز أن يكون المراد السفهاء; لأن السفهاء لم يتوجه الخطاب إليهم بشيء؛ وإنما توجه إلى العقلاء المخاطبين؛ وليس ذلك كقوله (تعالى): فاقتلوا أنفسكم ؛ وقوله (تعالى): ولا تقتلوا أنفسكم ; لأن القاتلين والمقتولين قد انتظمهم خطاب واحد؛ لم يتميز أحد الفريقين من الآخر في حكم المخاطبة؛ فلذلك جاز أن يكون المراد: "فليقتل بعضكم بعضا"؛ وقد قيل: إن أصل السفه الخفة؛ ومن ذلك قول الشاعر:


مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مر الرياح النواسم



يعني: استخفتها الرياح؛ وقال آخر:



نخاف أن تسفه أحلامنا ...     فنخمل الدهر مع الخامل



أي: تخف أحلامنا؛ ويسمى الجاهل سفيها; لأنه خفيف العقل؛ ناقصه؛ فمعنى الجهل شامل لجميع من أطلق عليه اسم السفيه؛ والسفيه في أمر الدين هو الجاهل فيه؛ والسفيه في المال هو الجاهل لحفظه؛ وتدبيره؛ والنساء والصبيان أطلق عليهم اسم السفهاء؛ لجهلهم؛ ونقصان تمييزهم؛ والسفيه في رأيه الجاهل فيه؛ والبذي اللسان يسمى سفيها; لأنه لا يكاد ينفق إلا في جهال الناس؛ ومن كان خفيف العقل منهم؛ وإذا كان اسم السفيه ينتظم هذه الوجوه؛ رجعنا إلى مقتضى لفظ الآية؛ في قوله (تعالى): فإن كان الذي عليه الحق سفيها ؛ فاحتمل أن يريد به الجهل بإملاء الشرط؛ وإن كان عاقلا مميزا؛ غير مبذر؛ ولا مفسد؛ وأجاز لولي الحق أن يمليه؛ حتى يقر به السفيه الذي عليه الحق؛ ويكون ذلك أولى بمعنى الآية; لأن الذي عليه الحق هو المذكور في أول الآية بالمداينة؛ ولو كان محجورا عليه لما جازت مداينته؛ ومن جهة أخرى أن ولي المحجور عليه لا يجوز إقراره عليه بالدين؛ وإنما يجوز على قول من يرى الحجر أن يتصرف عليه القاضي ببيع أو شراء؛ فأما وليه فلا نعلم أحدا يجيز تصرف أوليائه عليه؛ ولا إقرارهم؛ وفي ذلك دليل على أنه لم يرد ولي السفيه؛ وإنما أراد ولي الدين؛ [ ص: 215 ] وقد روي ذلك عن الربيع بن أنس ؛ وقاله الفراء أيضا؛ وأما قوله (تعالى): أو ضعيفا ؛ فقد قيل فيه: الضعيف في عقله؛ أو الصبي المأذون له; لأن ابتداء الآية قد اقتضى أن يكون الذي عليه الحق جائز المداينة والتصرف؛ فأجاز تصرف هؤلاء كلهم؛ فلما بلغ إلى حال إملاء الكتاب والإشهاد ذكر من لا يكمل لذلك؛ إما لجهل بالشروط؛ أو لضعف عقل؛ لا يحسن معه الإملاء؛ وإن لم يوجب نقصان عقله حجرا عليه؛ وإما لصغر؛ أو لخرف؛ وكبر سن; لأن قوله (تعالى): أو ضعيفا ؛ محتمل للأمرين جميعا؛ وينتظمهما؛ وذكر معهما من لا يستطيع أن يمل هو؛ إما لمرض؛ أو كبر سن؛ وانفلت لسانه عن الإملاء؛ أو لخرس؛ ذلك كله محتمل؛ وجائز أن تكون هذه الوجوه مرادة لله (تعالى)؛ لاحتمال اللفظ لها؛ وليس في شيء منها دلالة على أن السفيه يستحق الحجر؛ وأيضا فلو كان بعض من يلحقه اسم السفيه يستحق الحجر لم يصح الاستدلال بهذه الآية في إثبات الحجر؛ وذلك لأنه قد ثبت أن السفيه لفظ مشترك؛ ينطوي تحته معان مختلفة؛ منها ما ذكرنا من السفه في الدين؛ وذلك لا يستحق به الحجر; لأن الكفار والمنافقين سفهاء؛ وهم غير مستحقين للحجر في أموالهم؛ ومنها السفه الذي هو البذاء؛ والتسرع إلى سوء اللفظ؛ وقد يكون السفيه بهذا الضرب من السفه مصلحا لماله؛ غير مفسده؛ ولا مبذره؛ وقال (تعالى): إلا من سفه نفسه ؛ قال أبو عبيدة : يريد أهلكها؛ وأوبقها؛ وروي عن عبد الله بن عمر قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني أحب أن يكون رأسي دهينا؛ وقميصي غسيلا؛ وشراك نعلي جديدا؛ أفمن الكبر هو يا رسول الله؟ قال: "لا؛ إنما الكبر من سفه الحق؛ وغمط الناس"؛ وهذا يشبه أن يريد من جهل الحق; لأن الجهل يسمى سفها؛ والله (تعالى) أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية