صفحة جزء
وقد اختلف أهل العلم في شهادة النساء مع الرجال في غير الأموال؛ فقال أبو حنيفة ؛ وأبو يوسف؛ ومحمد؛ وزفر؛ وعثمان البتي : "لا تقبل شهادة النساء مع الرجال؛ لا في الحدود؛ ولا في القصاص؛ وتقبل فيما سوى ذلك من سائر الحقوق"؛ وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا يحيى بن عبادة قال: حدثنا شعبة عن الحجاج بن أرطاة؛ عن عطاء بن أبي رباح أن عمر أجاز شهادة رجل وامرأتين في نكاح؛ وروى جرير بن حازم عن الزبير بن الخريت؛ عن أبي لبيد أن عمر أجاز شهادة النساء في طلاق؛ وروى إسرائيل عن عبد الأعلى؛ عن محمد بن الحنفية ؛ عن علي - رضي الله عنه - قال: "تجوز شهادة النساء في العقد"؛ وروى حجاج عن عطاء أن ابن عمر كان يجيز شهادة النساء مع الرجل في النكاح؛ وروي عن عطاء أنه كان يجيز شهادة النساء في الطلاق؛ وروي عن عون ؛ عن الشعبي ؛ عن شريح أنه أجاز شهادة رجل وامرأتين في عتق؛ وهو قول الشعبي في الطلاق؛ وروي عن الحسن والضحاك قالا: "لا تجوز شهادتهن إلا في الدين؛ والولد"؛ وقال مالك : "لا تجوز شهادة النساء مع الرجال في الحدود؛ والقصاص ؛ ولا في الطلاق؛ ولا في النكاح؛ ولا في الأنساب؛ ولا في [ ص: 232 ] الولاء؛ ولا الإحصان؛ وتجوز في الوكالة؛ والوصية؛ إذا لم يكن فيها عتق"؛ وقال الثوري : "تجوز شهادتهن في كل شيء؛ إلا الحدود"؛ وروي عنه أنها لا تجوز في القصاص أيضا؛ وقال الحسن بن حي: "لا تجوز شهادتهن في الحدود"؛ وقال الأوزاعي : "لا تجوز شهادة رجل وامرأتين في نكاح"؛ وقال الليث : "تجوز شهادة النساء في الوصية؛ والعتق؛ ولا تجوز في النكاح؛ ولا الطلاق؛ ولا الحدود؛ ولا قتل العمد الذي يقاد منه"؛ وقال الشافعي : "لا تجوز شهادة النساء مع الرجال في غير الأموال ؛ ولا يجوز في الوصية إلا الرجل؛ وتجوز في الوصية بالمال".

قال أبو بكر : ظاهر هذه الآية يقتضي جواز شهادتهن مع الرجل في سائر عقود المداينات؛ وهي كل عقد واقع على دين؛ سواء كان بدله مالا؛ أو بضعا؛ أو منافع؛ أو دم عمد; لأنه عقد فيه دين؛ إذ المعلوم أنه ليس مراد الآية في قوله (تعالى): إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى ؛ أن يكون المعقود عليهما من البدلين دينين؛ لامتناع جواز ذلك إلى أجل مسمى؛ فثبت أن المراد وجود دين عن بدل؛ أي دين كان؛ فاقتضى ذلك جواز شهادة النساء مع الرجل على عقد نكاح فيه مهر مؤجل؛ إذا كان ذلك عقد مداينة؛ وكذلك الصلح من دم العمد؛ والخلع على مال؛ والإجارات؛ فمن ادعى خروج شيء من هذه العقود من ظاهر الآية لم يسلم له ذلك؛ إلا بدلالة؛ إذ كان العموم مقتضيا لجوازها في الجميع.

ويدل على جواز شهادة النساء في غير الأموال ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أحمد بن القاسم الجوهري قال: حدثنا محمد بن إبراهيم؛ أخو أبي معمر ؛ قال: حدثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد؛ عن الأعمش ؛ عن أبي وائل؛ عن حذيفة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاز شهادة القابلة؛ والولادة ليست بمال؛ وأجاز شهادتها عليها ؛ فدل ذلك على أن شهادة النساء ليست مخصوصة بالأموال؛ ولا خلاف في جواز شهادة النساء على الولادة ؛ وإنما الاختلاف في العدد؛ وأيضا لما ثبت أن اسم الشهيدين واقع في الشرع على الرجل والمرأتين؛ وقد ثبت أن اسم البينة يتناول الشهيدين؛ وجب بعموم قوله: " البينة على المدعي؛ واليمين على المدعى عليه "؛ القضاء بشهادة الرجل والمرأتين في كل دعوى؛ إذ قد شملهم اسم البينة؛ ألا ترى أنها بينة في الأموال؟ فلما وقع عليها الاسم وجب بحق العموم قبولها لكل مدع؛ إلا أن تقوم الدلالة على تخصيص شيء منه؛ وإنما خصصنا الحدود؛ والقصاص؛ لما روى الزهري قال: "مضت السنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ والخليفتين من بعده؛ ألا تجوز شهادة النساء في الحدود؛ ولا في القصاص"؛ وأيضا لما اتفق الجميع على [ ص: 233 ] قبول شهادتهن مع الرجل في الديون؛ وجب قبولها في كل حق لا تسقطه الشبهة؛ إذا كان الدين حقا لا يسقط بالشبهة؛ ومما يدل على جوازها في غير الأموال من الآية أن الله (تعالى) قد أجازها في الأجل؛ بقوله: إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ؛ ثم قال: فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ؛ فأجاز شهادتها مع الرجل على الأجل ؛ وليس بمال؛ كما أجازها في المال؛ فإن قيل: الأجل لا يجب إلا في المال؛ قيل له: هذا خطأ; لأن الأجل قد يجب في الكفالة بالنفس؛ وفي منافع الأحرار التي ليست بمال ؛ وقد يؤجله الحاكم في إقامة البينة على الدم؛ وعلى دعوى العفو منه بمقدار ما يمكن التقدم إليه؛ فقولك: إن الأجل لا يجب إلا في المال خطأ؛ ومع ذلك فالبضع لا يستحق إلا بمال؛ ولا يقع النكاح إلا بمال؛ فينبغي أن تجيز فيه شهادة النساء.

التالي السابق


الخدمات العلمية