صفحة جزء
باب الزيادة في المهور قال الله تعالى بعد ذكر المهر : ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة والفريضة ههنا التسمية والتقدير ، كفرائض المواريث والصدقات ، وقد بينا ذلك فيما سلف .

وروي عن الحسن في قوله تعالى : ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة أنه ما تراضيتم به من حط بعض الصداق أو تأخيره أو هبة جميعه وفي هذه الآية دلالة على جواز الزيادة في المهر لقوله تعالى : فيما تراضيتم به من بعد الفريضة وهو عموم في الزيادة والنقصان والتأخير والإبراء ، وهو بالزيادة أخص منه بغيرها ؛ لأنه علقه بتراضيهما ، والبراءة والحط والتأخير لا يحتاج في وقوعه إلى رضى الرجل ، والزيادة لا تصح إلا بقبولهما ؛ فلما علق ذلك بتراضيهما جميعا دل على أن المراد الزيادة . ولا يجوز الاقتصار به على البراءة والحط والتأجيل ؛ لأن عموم اللفظ يقتضي جواز الجميع ، فلا يخص بغير دلالة ؛ ولأن الاقتصار به على ما ذكرت يسقط فائدة ذكر تراضيهما جميعا وإضافة ذلك إليهما ، وغير جائز إسقاط حكم اللفظ والاقتصار به على ما يجعل وجوده وعدمه سواء .

وقد اختلف الفقهاء في الزيادة في المهر ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : " الزيادة في الصداق بعد النكاح جائزة وهي ثابتة إن دخل بها أو مات عنها ، وإن طلقها قبل الدخول بطلت الزيادة وكان لها نصف المسمى في العقد " . وقال زفر بن الهذيل والشافعي : " الزيادة بمنزلة هبة مستقبلة " إذا قبضتها جازت في قولهما جميعا ، وإن لم تقبضها بطلت . وقال مالك بن أنس : " تصح الزيادة ، فإن طلقها قبل الدخول رجع نصف ما زادها إليه وهي بمنزلة مال وهبه لها يقوم به عليه ، وإن مات عنها قبل أن تقبض فلا شيء لها منه لأنها عطية لم تقبض " . قال أبو بكر : قد ذكرنا وجه دلالة الآية على جواز الزيادة ؛ ومما يدل على جواز الزيادة [ ص: 107 ] أن عقد النكاح في ملكهما ، والدليل على ذلك أنه جائز له أن يخلعها على البضع فيأخذ منها بدله فهما مالكان للتصرف في البضع ، فلما كان العقد في ملكهما وجب أن تجوز الزيادة فيه كما جازت في ابتداء عقد النكاح من حيث كانا مالكين للعقد ؛ ؛ إذ كان الملك هو التصرف وتصرفهما جائز فيه .

ويدل عليه اتفاق الجميع على أنه إذا قبضها جاز ، فلا يخلو بعد الإقباض من أن تكون هبة مستقبلة على ما قال زفر والشافعي أو زيادة في المهر لاحقة بالعقد على ما ذكرنا ، وغير جائز أن تكون هبة مستقبلة ؛ لأنهما لم يدخلا فيها على أنها هبة وإنما أوجباها على أنها بدل من البضع لاحقة بالعقد ، و لا يجوز لنا أن نلزمهما عقدا لم يعقداه على أنفسهما لقوله تعالى : أوفوا بالعقود وقوله صلى الله عليه وسلم : المسلمون عند شروطهم ، فإذا عقدا على أنفسهما عقدا لم يجز لنا إلزامهما عقدا غيره بظاهر الآية والسنة ؛ إذ كانت الآية إنما اقتضت إيجاب الوفاء بنفس العقد الذي عقده لا بغيره ؛ لأن إلزامه عقدا غيره لا يكون وفاء بالعقد الذي عقده ، وكذلك قوله : المسلمون عند شروطهم يقتضي الوفاء بالشرط ، وليس في إسقاط الشرط وإلزامهما معنى غيره الوفاء بالشرط ؛ فدلت الآية والسنة معا على بطلان قول المخالف من وجهين :

أحدهما : اقتضاء عمومهما لإيجاب الوفاء بالعقد والشرط ، والآخر : ما انتظمنا من امتناع إلزام عقد أو شرط غير ما عقداه ؛ ولما بطل إلزامهما الهبة بعد القبض وصح التمليك دل على أنها ملكت من جهة الزيادة . ويدل على أنه غير جائز أن يجعلها هبة ، أنها متى كانت زيادة كانت مضمونة على المرأة بالقبض ؛ لأنها بدل من البضع ، وإذا كانت هبة لم تكن مضمونة عليها ، وإذا كانت زيادة سقطت بالطلاق قبل الدخول ، وإذا كانت هبة لم يؤثر الطلاق فيها ، وإذا دخلا فيها على عقد يوجب الضمان لم يجز لنا إلزامهما . عقدا لا ضمان فيه ألا ترى أنهما إذا تعاقدا عقد بيع لم يجز إلزامهما عقد هبة ولو تعاقدا عقد إقالة لم يلزمهما عقد بيع مستقبل ؟ وفي ذلك دليل على أنه غير جائز إثبات الهبة بعقد الزيادة ، وإذا لم تكن هبة وقد صح التمليك كانت زيادة لاحقة بالعقد بدلا من البضع مع التسمية .

وأما قول مالك في جعله إياها هبة ، ثم قوله : " إنه إذا طلقها قبل الدخول رجع إليه نصف الزيادة " فإنه قول غير منتظم ؛ لأنها إن كانت هبة فلا تعلق لها بعقد النكاح ولا بالمهر ولا تأثير للطلاق في رجوع شيء منها إليه ، وإن كانت زيادة في المهر فغير جائز بطلانها بالموت .

وإنما [ ص: 108 ] قال أصحابنا : " إنه إذا طلقها قبل الدخول بطلت الزيادة كلها " من قبل أن الزيادة لما لم تكن موجودة في العقد وإنما كانت ملحقة به ، وجب أن يكون بقاؤها موقوفا على سلامة العقد أو الدخول بالمرأة ألا ترى أن الزيادة في البيع إنما تلحق به على شرط بقاء العقد وأنه متى بطل العقد بطلت الزيادة ؟ فكذلك الزيادة في المهر .

فإن قيل : التسمية الموجودة في العقد إنما يبطل بعضها بورود الطلاق عليها قبل الدخول ، فهلا كانت الزيادة كذلك ؛ إذ كانت إذا صحت ولحقت به كانت بمنزلة وجودها فيه فلا فرق بينهما وبين المسمى فيه قيل له : عندنا أن المسمى في العقد يبطل كله أيضا إذا طلق قبل الدخول لبطلان العقد المسمى فيها كهلاك المبيع قبل القبض ، وإنما يجب النصف على جهة الاستقبال كالمتعة .

وقد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال فيمن طلق قبل الدخول وقد سمى لها : " إن نصف المسمى هو متعتها " وكذلك كان يقول أبو الحسن الكرخي وعلى هذا المعنى قالوا في شاهدين شهدا على رجل بطلاق امرأته قبل الدخول وهو يجحد ثم رجعا : " إنهما يضمنان للزوج نصف المهر الذي غرم " ؛ لأن الطلاق قبل الدخول يسقط جميع المهر والنصف الذي يلزمه في التقدير كأنه دين مستأنف ألزماه بشهادتهما ، فعلى هذا لا يختلف حكم الزيادة والتسمية في سقوطهما بالطلاق قبل الدخول .

فإن قيل : هذا التأويل يؤدي إلى مخالفة قوله تعالى : وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم لأنك قلت إن الجميع يسقط ويجب النصف على وجه الاستئناف .

قيل له : ليس في الآية نفي لأن يكون النصف الواجب بعد الطلاق مهرا على وجه الاستئناف ، وإنما فيه وجوب نصف المفروض غير مقيد بوصف ولا شرط ، ونحن نوجب النصف أيضا ، فليس فيما ذكرنا من وجوبه في التقدير على وجه الاستئناف على أنه متعتها مخالفة للآية . ويدل على أن الطلاق قبل الدخول يسقط جميع الزيادة ، أنا قد علمنا أن العقد إذا خلا من التسمية يوجب مهر المثل ؛ إذ غير جائز أن يملك البضع بلا بدل ؛ ثم إذا رد الطلاق قبل الدخول أسقطه ؛ إذ لم يكن مسمى في العقد ، كذلك الزيادة لما لم تكن مسماة في العقد وجب أن يسقطها الطلاق قبل الدخول وإن كانت قد وجبت بإلحاقها بالعقد ، والله أعلم .

[ ص: 109 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية