صفحة جزء
باب صلاة الخوف قال الله تعالى : وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك الآية . قال أبو بكر : قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف على ضروب مختلفة ؛ واختلف فقهاء الأمصار فيها ، فقال أبو حنيفة ومحمد تقوم طائفة مع الإمام وطائفة بإزاء العدو فيصلي بهم ركعة وسجدتين ، ثم ينصرفون إلى مقام أصحابهم ، ثم تأتي الطائفة الأخرى التي بإزاء العدو فيصلي بهم ركعة وسجدتين ويسلم وينصرفون إلى مقام أصحابهم ، ثم تأتي الطائفة التي بإزاء العدو فيقضون ركعة بغير قراءة ويتشهدون ويسلمون ويذهبون إلى وجه العدو ، ثم تأتي الطائفة الأخرى فيقضون ركعة وسجدتين بقراءة " .

وقال ابن أبي ليلى : " إذا كان العدو بينهم وبين القبلة جعل الناس طائفتين ، فيكبر ويكبرون ويركع ويركعون جميعا معه ، وسجد الإمام والصف الأول ، ويقوم الصف الآخر في وجوه العدو ، فإذا قاموا من السجود [ ص: 237 ] سجد الصف المؤخر ، فإذا فرغوا من سجودهم قاموا وتقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم ، فيصلي بهم الإمام الركعة الأخرى كذلك ، وإن كان العدو في دبر القبلة قام الإمام ومعه صف مستقبل القبلة والصف الآخر مستقبل العدو ، فيكبر ويكبرون جميعا ويركع ويركعون جميعا ، ثم يسجد الصف الذي مع الإمام سجدتين ، ثم ينقلبون فيكونون مستقبلي العدو ، ثم يجيء الآخرون فيسجدون ويصلي بهم الإمام جميعا الركعة الثانية ، فيركعون جميعا ويسجد الصف الذي معه ، ثم ينقلبون إلى وجه العدو ، ويجيء الآخرون فيسجدون معه ويفرغون ، ثم يسلم الإمام وهم جميعا " .

قال أبو بكر : وروي عن أبي يوسف في صلاة الخوف ثلاث روايات ، إحداها مثل قول أبي حنيفة ومحمد ، والأخرى مثل قول ابن أبي ليلى إذا كان العدو في القبلة ، وإذا كان في غير القبلة فمثل قول أبي حنيفة .

والثالثة أنه لا تصلى بعد النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإمام واحد وإنما تصلى بإمامين كسائر الصلوات . وروي عن سفيان الثوري مثل قول أبي حنيفة . وروي أيضا مثل قول ابن أبي ليلى وقال : " إن فعلت كذلك جاز " وقال مالك : " يتقدم الإمام بطائفة وطائفة بإزاء العدو فيصلي بهم ركعة وسجدتين ويقوم قائما وتتم الطائفة التي معه لأنفسها ركعة أخرى ، ثم يتشهدون ويسلمون ، ثم يذهبون إلى مكان الطائفة التي لم تصل فيقومون مكانهم ، وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم ركعة وسجدتين ، ثم يتشهدون ويسلم ويقومون فيتمون لأنفسهم الركعة التي بقيت " قال ابن القاسم : كان مالك يقول : " لا يسلم الإمام حتى تتم الطائفة الثانية لأنفسها ، ثم يسلم بهم " لحديث يزيد بن رومان ؛ ثم رجع إلى حديث القاسم وفيه أن الإمام يسلم ، ثم تقوم الطائفة الثانية فيقضون . وقال الشافعي مثل قول مالك ، إلا أنه قال : " الإمام لا يسلم حتى تتم الطائفة الثانية لأنفسها ، ثم يسلم بهم " . وقال الحسن بن صالح مثل قول أبي حنيفة ، إلا أنه قال : " الطائفة الثانية إذا صلت مع الإمام وسلم الإمام قضت لأنفسها الركعة التي لم يصلوها مع الإمام ، ثم تنصرف وتجيء الطائفة الأولى فتقضي بقية صلاتها " .

قال أبو بكر : أشد هذه الأقاويل موافقة لظاهر الآية قول أبي حنيفة ومحمد وذلك لأنه تعالى قال : [ ص: 238 ] وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وفي ضمن ذلك أن طائفة منهم بإزاء العدو ؛ لأنه قال : وليأخذوا أسلحتهم وجائز أن يكون مراده الطائفة التي بإزاء العدو وجائز أن يريد به الطائفة المصلية ؛ والأولى أن يكون الطائفة التي بإزاء العدو ؛ لأنها تحرس هذه المصلية ؛ وقد عقل من ذلك أنهم لا يكونون جميعا مع الإمام لأنهم لو كانوا مع الإمام لما كانت طائفة منهم قائمة مع النبي صلى الله عليه وسلم بل يكونون جميعا معه ، وذلك خلاف الآية .

ثم قال تعالى : فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم وعلى مذهب مالك يقضون لأنفسهم ولا يكونون من ورائهم إلا بعد القضاء . وفي الآية الأمر لهم بأن يكونوا بعد السجود من ورائهم ، وذلك موافق لقولنا . ثم قال : ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك فدل ذلك على معنيين :

أحدهما : أن الإمام يجعلهم طائفتين في الأصل : طائفة معه ، وطائفة بإزاء العدو على ما قال أبو حنيفة ؛ لأنه قال : ولتأت طائفة أخرى وعلى مذهب مخالفنا هي مع الإمام لا تأتيه .

والثاني : قوله : لم يصلوا فليصلوا معك وذلك يقتضي نفي كل جزء من الصلاة ، ومخالفنا يقول : يفتتح الجميع الصلاة مع الإمام فيكونون حينئذ بعد الافتتاح فاعلين لشيء من الصلاة ؛ وذلك خلاف الآية فهذه الوجوه التي ذكرنا من معنى الآية موافقة لمذهب أبي حنيفة ومحمد . وقولنا موافق للسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وللأصول ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا وقال : إني امرؤ قد بدنت فلا تبادروني بالركوع ولا بالسجود . ومن مذهب المخالف أن الطائفة الأولى تقضي صلاتها وتخرج منها قبل الإمام . وفي الأصول أن المأموم مأمور بمتابعة الإمام لا يجوز له الخروج منها قبله ؛ وأيضا جائز أن يلحق الإمام سهو يلزم المأموم ولا يمكن الخارجين من صلاته قبل فراغه أن يسجدوا .

ويخالف هذا القول الأصول من جهة أخرى ، وهي اشتغال المأموم بقضاء صلاته والإمام قائم أو جالس تارك لأفعال الصلاة ، فيحصل به مخالفة الإمام في الفعل وترك الإمام لأفعال الصلاة لأجل المأموم ، وذلك ينافي معنى الاقتداء والائتمام ومنع الإمام من الاشتغال بالصلاة لأجل المأموم ؛ فهذان وجهان أيضا خارجان من الأصول .

فإن قيل : جائز أن تكون صلاة الخوف مخصوصة بجواز انصراف الطائفة الأولى قبل الإمام كما جاز المشي فيها . قيل له : المشي له نظير في الأصول ، وهو الراكب المنهزم . يصلي وهو سائر [ ص: 239 ] بالاتفاق ؛ فكان لما ذكرنا أصل متفق عليه ، فجاز أن لا تفسد صلاة الخوف .

وأيضا قد ثبت عندنا أن الذي سبقه الحدث في الصلاة ينصرف ويتوضأ ويبني ، قد وردت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ روى ابن عباس وعائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من قاء أو رعف في صلاته فلينصرف وليتوضأ وليبن على ما مضى من صلاته ، والرجل يركع ويمشي إلى الصف فلا تبطل صلاته ؛ وركع أبو بكر حين دخل المسجد ومشى إلى الصف ، فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم قال له : زادك الله حرصا ولا تعد ولم يأمره باستئناف الصلاة ، فكان للمشي في الصلاة نظائر في الأصول وليس للخروج من الصلاة قبل فراغ الإمام نظير ، فلم يجز فعله . وأيضا فإن المشي فيها اتفاق بيننا وبين مالك والشافعي ، ولما قامت به الدلالة سلمناه لها ، وما عدا ذلك فواجب حمله على موافقة الأصول حتى تقوم الدلالة على جواز خروجه عنها .

ومما يدل من جهة السنة على ما وصف ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا يزيد بن زريع عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو ، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أولئك وجاء أولئك فصلى بهم ركعة أخرى ، ثم سلم عليهم ، ثم قام هؤلاء فقضوا ركعتهم وقام هؤلاء فقضوا ركعتهم ؛ قال أبو داود : وكذلك رواه نافع وخالد بن معدان عن ابن عمر عن النبي ؛ وقال أبو داود : وكذلك قول مسروق ويوسف بن مهران عن ابن عباس ، وكذلك روى يونس عن الحسن عن أبي موسى أنه فعله . وقول ابن عمر : " فقضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة " على أنهم قضوا على وجه يجوز القضاء ، وهو أن ترجع الثانية إلى مقام الأولى وجاءت الأولى فقضت ركعة وسلمت ثم جاءت الثانية فقضت ركعة وسلمت . وقد بين ذلك في حديث خصيف عن أبي عبيدة عن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في حرة بني سليم صلاة الخوف ، قام فاستقبل القبلة وكان العدو في غير القبلة ، فصف معه صفا وأخذ صف السلاح واستقبلوا العدو ، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم والصف الذي معه ، ثم ركع وركع الصف الذي معه ، ثم تحول الصف الذين صفوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأخذوا السلاح ، وتحول الآخرون فقاموا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فركع النبي صلى الله عليه وسلم وركعوا وسجد وسجدوا ، ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم فذهب الذين صلوا معه وجاء الآخرون فقضوا ركعة فلما فرغوا أخذوا السلاح ، وتحول الآخرون وصلوا ركعة ؛ فكان للنبي صلى الله عليه وسلم ركعتان [ ص: 240 ] وللقوم ركعة ركعة ؛ فبين في هذا الحديث انصراف الطائفة الثانية قبل قضاء الركعة الأولى ، وهو معنى ما أجمله ابن عمر في حديثه .

وقد روي في حديث عبد الله بن مسعود من رواية ابن فضيل عن خصيف عن أبي عبيدة عن عبد الله : أن الطائفة الثانية قضت ركعة لأنفسها قبل قضاء الطائفة الأولى الركعة التي بقيت عليها ، والصحيح ما ذكرناه أولا ؛ لأن الطائفة الأولى قد أدركت أول الصلاة والثانية لم تدرك ، فغير جائز للثانية الخروج من صلاتها قبل الأولى ؛ ولأنه لما كان من حكم الطائفة الأولى أن تصلي الركعتين في مقامين فكذلك حكم الثانية أن تقضيهما في مقامين لا في مقام واحد لأن سبيل صلاة الخوف أن تكون مقسومة بين الطائفتين على التعديل بينهما فيها .

واحتج مالك بحديث رواه عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوات مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر فيه أن الطائفة الأولى صلت الركعة الثانية قبل أن يصليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا لم يروه أحد إلا يزيد بن رومان ؛ وقد خولف فيه فروى شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف فصف صفا خلفه وصف مصاف العدو ، فصلى بهم ركعة ، ثم ذهب هؤلاء وجاء أولئك ، فصلى بهم ركعة ، ثم قاموا فقضوا ركعة ركعة .

ففي هذا الحديث أن الطائفة الأولى لم تقض الركعة الثانية إلا بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته ؛ وهذا أولى لما قدمناه من دلائل الأصول عليه . وقد روى يحيى بن سعيد عن القاسم عن صالح مثل رواية يزيد بن رومان . وفي حديث مالك عن يزيد بن رومان أن تلك الصلاة إنما كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع ؛ وقد روى يحيى بن كثير عن أبي سلمة عن جابر قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفة منهم ، ثم انصرفوا وجاء الآخرون فصلى بهم ركعتين ؛ فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعا وكل طائفة ركعتين ؛ وهذا يدل على اضطراب حديث يزيد بن رومان . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف على وجوه أخر ، فاتفق ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وجابر وحذيفة وزيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهون العدو ، ثم صلى بالطائفة الأخرى ركعة ، وأن أحدا منهم لم يقض بقية صلاته قبل فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم . وروى صالح بن خوات على ما قد اختلف عنه فيه

مما قدمنا ذكره .

وروى أبو عياش الزرقي عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف نحو [ ص: 241 ] المذهب الذي حكيناه عن ابن أبي ليلى وأبي يوسف إذا كان العدو في القبلة . وروى أيوب وهشام عن أبي الزبير عن جابر هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وكذلك رواه داود بن حصين عن عكرمة عن ابن عباس ، وكذلك عبد الملك عن عطاء بن جابر ، وكذلك قتادة عن الحسن عن حطان عن أبي موسى من فعله . ورواه عكرمة بن خالد عن مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك هشام بن عروة عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقد روي عن ابن عباس وجابر ما قدمنا ذكره قبل هذا ، واختلفت الرواية عنهما فيها .

وروي فيها نوع آخر ، وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا الحسن بن علي قال : حدثنا أبو عبد الرحمن المقري قال : حدثنا حيوة بن شريح وابن لهيعة قالا : أخبرنا أبو الأسود أنه سمع عروة بن الزبير يحدث عن مروان بن الحكم أنه سأل أبا هريرة : هل صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ؟ فقال أبو هريرة : نعم ؛ قال مروان : متى ؟ فقال أبو هريرة عام غزوة نجد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة العصر فقامت معه طائفة وطائفة أخرى مقابل العدو وظهورهم إلى القبلة ، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبروا جميعا الذين معه والذين مقابلي العدو ، ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة واحدة وركعت الطائفة التي معه ، ثم سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجدت الطائفة التي تليه والآخرون قيام مقابلي العدو ، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقامت الطائفة التي معه فذهبوا إلى العدو فقابلوهم وأقبلت الطائفة التي كانت مقابلي العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم كما هو ، ثم قاموا فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة أخرى وركعوا معه وسجد وسجدوا معه ، ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابلي العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد ومن معه ، ثم كان السلام فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلموا جميعا ؛ فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان ولكل رجل من الطائفتين ركعة ركعة .

وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم نوع آخر من صلاة الخوف ، وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبيد الله بن معاذ قال : حدثنا أبي قال : حدثنا الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في خوف الظهر ، فصف بعضهم خلفه وبعضهم بإزاء العدو ، فصلى ركعتين ، ثم سلم ، فانطلق الذين صلوا فوقفوا موقف أصحابهم ، ثم جاء أولئك فصلوا خلفه فصلى بهم ركعتين ثم سلم ؛ فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربعا ولأصحابه ركعتين ركعتين ، وبذلك كان يفتي الحسن . قال أبو داود : وكذلك رواه يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك رواه سليمان [ ص: 242 ] اليشكري عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال أبو بكر : وقد قدمنا قبل ذلك أن ابن عباس وجابرا رويا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى بكل طائفة ركعة ركعة فكان لرسول الله ركعتان ولكل طائفة ركعة

وأن هذا محمول عندنا على أنه كان ركعة في جماعة وفعلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فذهب ابن أبي ليلى وأبو يوسف إذا كان العدو في القبلة إلى حديث أبي عياش الزرقي الذي ذكرناه .

وجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى هذه الصلوات على الوجوه التي وردت بها الروايات وذلك ؛ لأنها لم تكن صلاة واحدة فتتضاد الروايات فيها وتتنافى ، بل كانت صلوات في مواضع مختلفة ؛ بعسفان في حديث أبي عياش الزرقي ، وفي حديث جابر ببطن النخل ؛ ومنها حديث أبي هريرة في غزوة نجد وذكر فيه أن الصلاة كانت بذات الرقاع ، وصلاها في حرة بني سليم . ويشبه أن يكون قد صلى في بعض هذه المواضع عدة صلوات ؛ لأن في بعض حديث جابر الذي يقول فيه : " إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بكل طائفة ركعتين ذكر أنه كان بذات الرقاع ، وفي حديث صالح بن خوات أيضا أنه صلاها بذات الرقاع ؛ وهما مختلفان كل واحد منهما ذكر فيه من صفة صلاته خلاف صفة الأخرى ؛ وكذلك حديث أبي عياش الزرقي ذكر أنه صلاها بعسفان ، وذكر ابن عباس أيضا أنه صلاها بعسفان ؛ فروي تارة نحو حديث أبي عياش وتارة على خلافه .

واختلاف هذه الآثار يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى هذه الصلوات على اختلافها على حسب ورود الروايات بها وعلى ما رآه النبي احتياطا في الوقت من كيد العدو وما هو أقرب إلى الحذر والتحرز على ما أمر الله تعالى به من أخذ الحذر في قوله : وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولذلك كان الاجتهاد سائغا في جميع أقاويل الفقهاء على اختلافها ؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها إلا أن الأولى عندنا ما وافق ظاهر الكتاب والأصول .

وجائز أن يكون الثابت الحكم منها واحدا والباقي منسوخ ، وجائز أن يكون الجميع ثابتا غير منسوخ توسعة وترفيها لئلا يحرج من ذهب إلى بعضها ، ويكون الكلام في الأفضل منها كاختلاف الروايات في الترجيع في الأذان وفي تثنية الإقامة وتكبيرات العيدين والتشريق ونحو ذلك مما الكلام فيه بين الفقهاء في الأفضل ؛ فمن ذهب إلى وجه منها فغير معنف عليه في اختياره ، وكان الأولى عندنا ما وافق ظاهر الآية والأصول .

وفي حديث جابر وأبي بكرة [ ص: 243 ] أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بكل طائفة ركعتين ، فجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد كان مقيما حين صلاها كذلك ، ويكون قولهما " إنه سلم في الركعتين " المراد به تسليم التشهد وذلك لأن ظاهر الكتاب ينفيه على الوجه الذي يقتضيه ظاهر الخبر ؛ لأن الله تعالى قال : فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم وظاهر الخبر يوجب أن يكونوا مصلين مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد السجود على الحال التي كانوا عليها قبله .

فإن قيل : كيف يكون مقيما في بادية وهي ذات الرقاع وليست موضع إقامة ولا هي بالقرب من المدينة ؟ قيل له جائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة لم ينو سفر ثلاث وإنما نوى في كل موضع يبلغ إليه سفر يوم أو يومين ، فيكون مقيما عندنا ؛ إذ لم ينشئ سفر ثلاث وإن كان في البادية ؛ ويحتمل أن يكون فعلها في الوقت الذي يعاد الفرض فيه ، وذلك منسوخ عندنا ؛ وعلى أنه لو كان كذلك لم تكن صلاة خوف وإنما هي صلاة على هيئة سائر الصلوات ، ولا خلاف أن صلاة الخوف مخالفة لسائر الصلوات المفعولة في حال الأمن .

وأما القول الذي روي عن أبي يوسف في أنه لا تصلى بعد النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف وأنه ينبغي أن تصلى عند الخوف بإمامين ؛ فإنه ذهب فيه إلى ظاهر قول الله تعالى : وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فخص هذه الصلاة بكون النبي صلى الله عليه وسلم فيهم ، وأباح لهم فعلها معه على هذا الوجه ليدركوا فضيلة الصلاة خلفه التي مثلها لا يوجد في الصلاة خلف غيره ؛ فغير جائز بعده لأحد أن يصليها إلا بإمامين ؛ لأن فضيلة الصلاة خلف الثاني كهي خلف الأول ، فلا يحتاج إلى مشي واختلاف واستدبار القبلة مما هو مناف للصلاة .

قال أبو بكر : فأما تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب بها بقوله : وإذا كنت فيهم فليس بموجب بالاقتصار عليه بهذا الحكم دون غيره ؛ لأن الذي قال : وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة هو الذي قال : واتبعوه فإذا وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد فعل فعلا فعلينا اتباعه فيه على الوجه الذي فعله ، ألا ترى أن قوله : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم لم يوجب كون النبي صلى الله عليه وسلم مخصوصا به دون غيره من الأئمة بعده ؟ وكذلك قوله : إذا جاءك المؤمنات يبايعنك وكذلك قوله : وأن احكم بينهم بما أنزل الله وقوله : فإن جاءوك فاحكم بينهم فيه تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بالمخاطبة ، والأئمة بعده مرادون بالحكم معه .

وأما إدراك فضيلة الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم فليس يجوز أن يكون علة لإباحة المشي في الصلاة واستدبار القبلة والأفعال التي تركها [ ص: 244 ] من فروض الصلاة ؛ لأنه لما كان معلوما أن فعل الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن فرضا ، فغير جائز أن يكونوا أمروا بترك الفرض لأجل إدراك الفضل ، فلما كان هذا على ما وصفنا بطل اعتلاله بذلك وصح أن فعل صلاة الخوف على الوجه الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم جائز بعده كما جاز معه .

وقد روى جماعة من الصحابة جواز فعل صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه وسلم منهم ابن عباس وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبو موسى وحذيفة وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن سمرة في آخرين منهم ، من غير خلاف يحكى عن أحد منهم ، ومثله يكون إجماعا لا يسع خلافه . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية