صفحة جزء
باب مواقيت الصلاة قال الله تعالى : إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : " إن للصلاة وقتا كوقت الحج " . وعن ابن عباس ومجاهد وعطية : " مفروضا " . وروي عن ابن مسعود أيضا أنه قال : " موقوتا منجما ، كلما مضى نجم جاء نجم آخر " . وعن [ ص: 248 ] زيد بن أسلم مثل ذلك .

قال أبو بكر : قد انتظم ذلك إيجاب الفرض ومواقيته ؛ لأن قوله تعالى : كتابا معناه فرضا ، وقوله : موقوتا معناه أنه مفروض في أوقات معلومة معينة ، فأجمل ذكر الأوقات في هذه الآية وبينها في مواضع أخر من الكتاب من غير ذكر تحديد أوائلها وأواخرها ، وبين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم تحديدها ومقاديرها .

فمما ذكر الله في الكتاب من أوقات الصلاة قوله : أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر ذكر مجاهد عن ابن عباس : لدلوك الشمس قال : " إذا زالت الشمس عن بطن السماء لصلاة الظهر " إلى غسق الليل قال : " بدو الليل لصلاة المغرب " . وكذلك روي عن ابن عمر في دلوكها أنه زوالها .

وروى أبو وائل عن عبد الله بن مسعود قال : " إن دلوكها غروبها " وعن أبي عبد الرحمن السلمي نحوه . قال أبو بكر : لما تأولوا الآية على المعنيين من الزوال ومن الغروب دل على احتمالها لهما لولا ذلك لما تأوله السلف عليهما ؛ والدلوك في اللغة : الميل ، فدلوك الشمس ميلها ، وقد تميل تارة للزوال وتارة للغروب ؛ وقد علمنا أن دلوكها هو أول الوقت وغسق الليل نهايته وغايته ؛ لأنه قال : إلى غسق الليل و " إلى " غاية ، ومعلوم أن وقت الظهر لا يتصل بغسق الليل ؛ لأن بينهما وقت العصر ، فالأظهر أن يكون المراد بالدلوك ههنا هو الغروب وغسق الليل ههنا هو اجتماع الظلمة ؛ لأن وقت المغرب يتصل بغسق الليل ويكون نهاية له ؛ واحتمال الزوال مع ذلك قائم ؛ لأن ما بين زوال الشمس إلى غسق الليل وقت هذه الصلوات وهي الظهر والعصر والمغرب ، فيفيد ذلك أن من وقت الزوال إلى غسق الليل لا ينفك من أن يكون وقتا لصلاة ، فيدخل فيه الظهر والعصر والمغرب .

ويحتمل أن يراد به العتمة أيضا ؛ لأن الغاية قد تدخل في الحكم كقوله تعالى : وأيديكم إلى المرافق والمرافق داخلة فيها ، وقوله : حتى تغتسلوا والغسل داخل في شرط الإباحة ؛ فإن حمل المعنى على الزوال انتظم أربع صلوات .

ثم قال : وقرآن الفجر وهو صلاة الفجر ، فتنتظم الآية الصلوات الخمس ؛ وهذا معنى قد دل عليه إفراده صلاة الفجر بالذكر ؛ إذ كان بينها وبين صلاة الظهر وقت ليس من أوقات الصلوات المفروضة ، فأبان تعالى أن من وقت الزوال إلى وقت العتمة وقتا لصلوات مفعولة فيه ، وأفرد الفجر بالذكر ؛ إذ كان بينها وبين الظهر فاصلة وقت ليس من أوقات الصلوات .

فهذه الآية يحتمل أن يريد بها بيان وقت صلاتين إذا كان المراد بالدلوك الغروب وهو وقت المغرب والفجر بقوله تعالى : وقرآن الفجر [ ص: 249 ] ويحتمل أن يريد بها الصلوات الخمس على الوجه الذي بينا ، ويحتمل أن يريد بها الظهر والمغرب والفجر وذلك لأنه جائز أن يريد بقوله : إلى غسق الليل أقم الصلاة مع غسق الليل ، كقوله تعالى : ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ومعناه : مع أموالكم ؛ ويكون غسق الليل حينئذ وقتا لصلاة المغرب .

ويجوز أن يريد به وقت صلاة العتمة ؛ وقد روى ليث عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان يقول : " دلوك الشمس حين تزول إلى غسق الليل حين تجب الشمس " ؛ قال : وقال ابن مسعود : " دلوك الشمس : حين تجب ، إلى غسق : الليل حين يغيب الشفق " . وعن عبد الله أيضا أنه لما غربت الشمس قال : " هذا غسق الليل " ، وعن أبي هريرة : " غسق الليل غيبوبة الشمس " ، وقال الحسن : " غسق الليل صلاة المغرب والعشاء " ، وقال إبراهيم النخعي : " غسق الليل العشاء الآخرة " . وعن أبي جعفر : " غسق الليل انتصافه " .

وروى مالك عن داود بن الحصين قال : أخبرني مخبر عن ابن عباس أنه كان يقول : " غسق الليل اجتماع الليل وظلمته " . فهذه الآية فيها احتمال للوجوه التي ذكرنا من مواقيت الصلوات .

وقال تعالى : وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل روى عمرو عن الحسن في قوله تعالى : طرفي النهار قال : " صلاة الفجر ، والأخرى الظهر والعصر " وزلفا من الليل قال : " المغرب والعشاء " . فعلى هذا القول قد انتظمت الآية الصلوات الخمس . وروى يونس عن الحسن : وأقم الصلاة طرفي النهار قال : " الفجر والعصر " .

وروى ليث عن الحكم عن أبي عياض قال : قال ابن عباس : " جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة : فسبحان الله حين تمسون المغرب والعشاء وحين تصبحون الفجر وعشيا العصر وحين تظهرون الظهر " . وعن الحسن مثله .

وروى أبو رزين عن ابن عباس : وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب قال : " الصلاة المكتوبة " وقال : وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى وهذه الآية منتظمة لأوقات الصلوات أيضا .

فهذه الآيات كلها فيها ذكر أوقات الصلوات من غير تحديد لها ، إلا فيما ذكر من الدلوك فإنه جعله أول وقت لتلك الصلاة ، ووقت الزوال والغروب معلومان ، وقوله تعالى : إلى غسق الليل ليس فيه بيان نهاية الوقت بلفظ غير محتمل للمعاني ، وقوله : حين تمسون إن أراد به المغرب كان معلوما ، وكذلك تصبحون لأن وقت الصبح معلوم ، وقوله : طرفي النهار لا دلالة فيه على تحديد الوقت لاحتماله أن يريد الظهر والعصر وذلك لأن وسط [ ص: 250 ] النهار هو وقت الزوال ، فما كان منه في النصف الآخر فهو طرف ، وكذلك ما كان منه في النصف الأول فهو طرف .

وجائز أن يريد به العصر ؛ لأن آخر النهار من طرفه ؛ والأولى أن يكون المراد العصر دون الظهر ؛ لأن طرف الشيء إما أن يكون ابتداءه أو نهايته وآخره ويبعد أن يكون ما قرب من الوسط طرفا ؛ إلا أن الحسن في رواية عمرو قد تأوله على الظهر والعصر جميعا وقد روى عنه يونس أنه العصر ، وهو أشبه بمعنى الآية ، ألا ترى أن طرف الثوب ما يلي نهايته ولا يسمى ما قرب من وسطه طرفا ؟ فهذه الآي دالة على أعداد الصلوات .

وقوله تعالى : حافظوا على الصلوات الآية ، يدل على أنها وتر ؛ لأن الشفع لا وسط له ، وقد تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم ونقلت الأمة عنه قولا وفعلا فرض الصلوات الخمس . وقد روى أنس بن مالك وعبادة بن الصامت في حديث المعراج عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه أمر بخمسين صلاة ، وأنه لم يزل يسأل ربه التخفيف حتى استقرت على خمس ، وهذا عندنا كان فرضا موقوفا على اختيار النبي صلى الله عليه وسلم كذلك ؛ لأنه لا يجوز نسخ الفرض قبل التمكن من الفعل ، وقد بيناه في أصول الفقه ؛ ولا خلاف بين المسلمين في فرض الصلوات الخمس . وقال جماعة من السلف بوجوب الوتر ، وهو قول أبي حنيفة ، وليس هو بفرض عنده وإن كان واجبا ؛ لأن الفرض ما كان في أعلى مراتب الإيجاب . وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم آثار متواترة في بيان تحديد أوقات الصلوات ، واتفقت الأمة في بعضها واختلفت في بعض .

التالي السابق


الخدمات العلمية