صفحة جزء
وأما قوله تعالى : إلا ما ذكيتم فإنه معلوم أن الاستثناء راجع إلى بعض المذكور دون جميعه ؛ لأن قوله : حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به لا خلاف أن الاستثناء غير راجع إليه ، وأن ذلك لا يجوز أن تلحقه الذكاة ، وقد كان حكم الاستثناء أن يرجع إلى ما يليه ، وقد ثبت أنه لم يعد إلى ما قبل المنخنقة ؛ فكان حكم العموم فيه قائما وكان الاستثناء عائدا إلى المذكور من عند قوله : والمنخنقة لما روي ذلك عن علي وابن عباس والحسن وقتادة وقالوا كلهم : " ما أدركت ذكاته بأن توجد له عين تطرف أو ذنب يتحرك فأكله جائز " . وحكي عن بعضهم أنه قال : الاستثناء عائد إلى قوله : وما أكل السبع دون ما تقدم ؛ لأنه يليه ؛ وليس هذا بشيء ، لاتفاق السلف على خلافه ؛ ولأنه لا خلاف أن سبعا لو أخذ قطعة من لحم البهيمة فأكلها أو تردى شاة من جبل ولم يشف بها ذلك على الموت فذكاها صاحبها أن ذلك جائز مباح الأكل ، وكذلك النطيحة وما ذكر معها ، فثبت أن الاستثناء راجع إلى جميع المذكور من عند قوله : والمنخنقة وإنما قوله : إلا ما ذكيتم فإنه استثناء منقطع بمنزلة قوله : " لكن ما ذكيتم " كقوله : فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس ومعناه : لكن قوم يونس ؛ وقوله : طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى معناه : لكن تذكرة لمن يخشى ؛ ونظائره في القرآن كثيرة .

وقد اختلف الفقهاء في ذكاة الموقوذة ونحوها ، فذكر محمد في الأصل في المتردية : إذا أدركت ذكاتها قبل أن تموت أكلت ، وكذلك الموقوذة والنطيحة وما أكل السبع . وعن أبي يوسف في الإملاء : أنه إذا بلغ به ذلك إلى حال لا يعيش في مثله لم يؤكل وإن ذكي قبل الموت .

وذكر ابن سماعة عن محمد : أنه إن كان يعيش منه اليوم ونحوه أو دونه فذكاها حلت ، وإن كان لا يبقى إلا كبقاء المذبوح لم يؤكل وإن ذبح ؛ واحتج بأن عمر كانت به جراحة متلفة وصحت عهوده [ ص: 300 ] وأوامره ، ولو قتله قاتل في ذلك الوقت كان عليه القود .

وقال مالك : " إذا أدركت ذكاتها وهي حية تطرف أكلت " . وقال الحسن بن صالح : " إذا صارت بحال لا تعيش أبدا لم تؤكل وإن ذبحت " . وقال الأوزاعي : " إذا كان فيها حياة فذبحت أكلت ، والمصيودة إذا ذبحت لم تؤكل " . وقال الليث : " إذا كانت حية وقد أخرج السبع ما في جوفها أكلت إلا ما بان عنها " .

وقال الشافعي في السبع إذا شق بطن الشاة ونستيقن أنها تموت : إن لم تذك فذكيت فلا بأس بأكلها .

قال أبو بكر : قوله تعالى : إلا ما ذكيتم يقتضي ذكاتها ما دامت حية ، فلا فرق في ذلك بين أن تعيش من مثله أو لا تعيش ، وأن تبقى قصير المدة أو طويلها ؛ وكذلك روي عن علي وابن عباس أنه إذا تحرك شيء منها صحت ذكاتها . ولم يختلفوا في الأنعام إذا أصابتها الأمراض المتلفة التي تعيش معها مدة قصيرة أو طويلة أن ذكاتها بالذبح ، فكذلك المتردية ونحوها ؛ والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية