صفحة جزء
ذكر اختلاف الفقهاء في ذلك

قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر : " إذا أكل الكلب من الصيد فهو غير معلم لا يؤكل صيده ، ويؤكل صيد البازي وإن أكل " وهو قول الثوري . وقال مالك والأوزاعي والليث : " يؤكل وإن أكل الكلب منه " . وقال الشافعي : " لا يؤكل إذا أكل الكلب منه والبازي [ ص: 311 ] مثله في القياس " .

قال أبو بكر : اتفق السلف المجيزون لصيد الجوارح من سباع الطير أن صيدها يؤكل وإن أكلت منه ، منهم سعد وابن عباس وسلمان وابن عمر وأبو هريرة وسعيد بن المسيب ؛ وإنما اختلفوا في صيد الكلب ، فقال علي بن أبي طالب وابن عباس وعدي بن حاتم وأبو هريرة وسعيد بن جبير وإبراهيم : " لا يؤكل صيد الكلب إذا أكل منه " . وقال سلمان وسعد وابن عمر : " يؤكل صيده وإن لم يبق منه إلا ثلثه " . وهو قول الحسن وعبيد بن عمير ، وإحدى الروايتين عن أبي هريرة وعطاء وسليمان بن يسار وابن شهاب .

قال أبو بكر : معلوم من حال الكلب قبوله للتأديب في ترك الأكل ، فجائز أن يعلم تركه ويكون تركه للأكل علما للتعليم ودلالة عليه ، فيكون تركه للأكل من شرائط صحة ذكاته ووجود الأكل مانع من صحة ذكاته . وأما البازي فإنه معلوم أنه لا يمكن تعليمه بترك الأكل وأنه لا يقبل التعليم من هذه الجهة ، فإذا كان الله قد أباح صيد جميع الجوارح على شرط التعليم فغير جائز أن يكون من شرط التعليم للبازي تركه الأكل ؛ إذ لا سبيل إلى تعليمه ذلك ، ولا يجوز أن يكلفه الله تعليم ما لا يصح منه التعليم وقبول التأديب ؛ فثبت أن ترك الأكل ليس من شرائط تعلم البازي وجوارح الطير ، وكان ذلك من شرائط تعلم الكلب ؛ لأنه يقبله ويمكن تأديبه به .

ويشبه أن يكون ما روي عن علي بن أبي طالب وغيره في حظر ما قتله البازي ، من حيث كان عندهم أن من شرط التعليم ترك الأكل ، وذلك غير ممكن في الطير فلم يكن معلما فلا يكون ما قتله مذكى .

إلا أن ذلك يؤدي إلى أن لا تكون لذكر التعليم في الجوارح من الطير فائدة ؛ إذ كان صيدها غير مذكى ، وأن يكون المعلم وغير المعلم فيه سواء ، وذلك غير جائز ؛ لأن الله تعالى قد عمم الجوارح كلها وشرط تعليمها ولم يفرق بين الكلب وبين الطير فوجب استعمال عموم اللفظ فيها كلها ، فيكون من جوارح الطير ما يكون معلما ، وكذلك من الكلاب ، وإن اختلفت وجوه تعليمها ، فيكون من تعليم الكلاب ونحوها ترك الأكل ، ومن تعليم جوارح الطير أن يجيبه إذا دعاه ويألفه ولا ينفر عنه ، حتى يكون التعليم عاما في جميع ما ذكر في الآية .

ومن الدليل على أن من شرائط ذكاة صيد الكلب ونحوه ترك الأكل قول الله تعالى : فكلوا مما أمسكن عليكم ولا يظهر الفرق بين إمساكه على نفسه وبين إمساكه علينا إلا بترك الأكل ، ولو لم يكن ترك الأكل مشروطا لزالت فائدة قوله : فكلوا مما أمسكن عليكم فلما كان ترك الأكل علما لإمساكه [ ص: 312 ] علينا وكان الله إنما أباح لنا أكل صيدها بهذه الشريطة ، وجب أن يكون ما أمسكه على نفسه محظورا .

فإن قيل فقد يأكل البازي منه ويكون مع الأكل ممسكا علينا . قيل له : الإمساك علينا إنما هو مشروط في الكلب ونحوه ، فأما الطير فلم يشرط فيه أن يمسكه علينا لما قدمناه بديا . ويدل على أن إمساك الكلب علينا أن لا يأكل منه وأنه متى أكل منه كان ممسكا على نفسه ما روي عن ابن عباس أنه قال : " إذا أكل منه الكلب فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه " ، فأخبر أن الإمساك علينا تركه للأكل ؛ فإذا كان اسم الإمساك يتناول ما ذكره ولو لم يتناوله لم يتأوله عليه ، وجب حمل الآية عليه من حيث صار ذلك اسما له . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أيضا ، فثبتت حجته من وجهين :

أحدهما : بيان معنى الآية والمراد بها .

والثاني : نص السنة في تحريم ذلك .

حدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا بشر بن موسى قال : حدثنا الحميدي قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا مجالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد الكلب المعلم ، فقال : إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل مما أمسك عليك فإن أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه . وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن كثير قال : حدثنا شعبة عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي قال : قال عدي بن حاتم : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المعراض ، فقال : إذا أصاب بحده فكل وإذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ . قلت : أرسل كلبي ؟ قال : إذا سميت فكل وإلا فلا تأكل ، وإن أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه ؛ وقال : أرسل كلبي فأجد عليه كلبا آخر ؟ قال : لا تأكل لأنك إنما سميت على كلبك . فثبت بهذا الخبر مراد الله تعالى بقوله : فكلوا مما أمسكن عليكم ونص النبي صلى الله عليه وسلم على النهي عن أكل ما أكل منه الكلب .

فإن قيل : قد روى حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ثعلبة الخشني : فكل مما أمسك عليك الكلب قال : فإن أكل منه ؟ قال : وإن أكل منه . قيل له : هذا اللفظ غلط في حديث أبي ثعلبة ؛ وذلك لأن حديث أبي ثعلبة قد رواه عنه أبو إدريس الخولاني وأبو أسماء وغيرهم فلم يذكر فيه هذا اللفظ ؛ وعلى أنه لو ثبت في حديث أبي ثعلبة كان حديث عدي بن حاتم أولى من وجهين :

أحدهما : من موافقته لظاهر الآية في قوله : فكلوا مما أمسكن عليكم

والثاني : ما فيه من حظر ما أكل منه الكلب ؛ ومتى ورد خبران في أحدهما حظر شيء وفي [ ص: 313 ] الآخر إباحته فخبر الحظر أولاهما بالاستعمال .

فإن قيل : معنى قوله : فكلوا مما أمسكن عليكم أن يحبسه علينا بعد قتله له ، فهذا هو إمساكه علينا . فيقال له : هذا غلط ؛ لأنه قد صار محبوسا بالقتل فلا يحتاج الكلب إلى أن يحبسه علينا بعد قتله ، فهذا لا معنى له .

فإن قيل : قتله هو حبسه علينا . قيل له : هذا أيضا لا معنى له ؛ لأنه يصير تقدير الآية على هذا : فكلوا مما قتلن عليكم ؛ وهذا يسقط فائدة الآية ؛ لأن إباحة ما قتلته قد تضمنته الآية قبل ذلك في قوله تعالى : وما علمتم من الجوارح وهو يعني صيد ما علمنا من الجوارح جوابا لسؤال من سأل عن المباح منه .

وعلى أن الإمساك ليس بعبارة عن القتل ؛ لأنه قد يمسكه علينا وهو حي غير مقتول ، فليس إمساكه علينا إذا إلا أن يحبسه حتى يجيء صاحبه . ولا يخلو الإمساك علينا من أن يكون حبسه إياه علينا من غير قتل ، أو حبسه علينا بعد قتله ، أو تركه للأكل منه بعد قتله ؛ ومعلوم أنه لم يرد به حبسه علينا وهو حي غير مقتول لاتفاق الجميع على أن ذلك غير مراد ، وأن حبسه علينا حيا ليس بشرط في إباحة أكله ؛ لأنه لو كان كذلك لكان لا يحل أكل ما قتله ، ولا يجوز أيضا أن يكون المراد حبسه علينا بعد قتله ، وإن أكل منه ؛ لأن ذلك لا معنى له ؛ لأن الله تعالى جعل إمساكه علينا شرطا في الإباحة ، ولا خلاف أنه لو قتله ثم تركه وانصرف عنه ولم يحبسه علينا أنه يجوز أكله ؛ فعلمنا أن ذلك غير مراد ، فثبت أن المراد تركه الأكل .

فإن قيل : قوله : فكلوا مما أمسكن عليكم يقتضي إباحة ما بقي من الصيد بعد أكله ؛ لأنه قد أمسكه علينا إذا لم يأكله ، وإنما لم يمسك علينا المأكول منه دون ما بقي منه فقد اقتضى ظاهر الآية إباحة أكل الباقي مما هو ممسك علينا .

قيل له : هذا غلط من وجوه :

أحدها : أن من روي عنه معنى الإمساك من السلف قالوا فيه قولين :

أحدهما : أن لا يأكل منه ، وهو قول ابن عباس وقول من قال حبسه علينا بعد القتل ، ولم يقل أحد منهم إن ترك أكل الباقي منه بعد ما أكل هو إمساك ، فبطل هذا القول .

والثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه فلم يجعله ممسكا علينا ما بقي منه إذا كان قد أكل منه شيئا .

والثالث : أنه يصير في معنى قوله : فكلوا مما قتله ، من غير ذكر إمساك ؛ ؛ إذ معلوم أن ما قد أكله لا يجوز أن يتناوله الحظر ، فيؤدي ذلك إلى إسقاط فائدة ذكر إمساكه علينا . وأيضا فإنه إذا أكل منه فقد علمنا أنه إنما اصطاد لنفسه وأمسكه عليها ولم يمسكه علينا باصطياده ، وتركه أكل بعضه بعد ما أكل [ ص: 314 ] منه ما أكل لا يكسبه في الباقي حكم الإمساك علينا ؛ لأنه يجوز أن يترك أكل الباقي ؛ لأنه قد شبع ولم يحتج إليه لا ؛ لأنه أمسكه علينا ، وفي أكله منه بديا دلالة على أنه لم يمسكه علينا باصطياده ؛ وهذا الذي يجب علينا اعتباره في صحة التعليم ، وهو أن يعلم أنه ينبغي أن يصطاده لنا ويمسكه علينا ، فإذا أكل منه علمنا أنه لم يبلغ حد التعليم .

فإن قيل : الكلب إنما يصطاد ويمسك لنفسه لا لصاحبه ، ألا ترى أنه لو كان شبعان حين أرسل لم يصطد ؟ وهو إنما يضرى على الصيد بأن يطعم منه ، فليس إذا في أكله منه نفي التعليم والإمساك علينا . ولو اعتبر ما ذكرتم فيه لاحتجنا إلى اعتبار نية الكلب وضميره ، وذلك مما لا نعلمه ولا نقف عليه بل لا نشك أن نيته وقصده لنفسه .

قيل له : أما قولك : " إنه يصطاد ويمسك لنفسه " فليس كذلك ؛ لأنه لو كان كذلك لما ضرب حتى يترك الأكل ، ولما تعلم ذلك إذا علم ، فلما كان إذا علم ترك الأكل تعلم ذلك ولم يأكل منه علمنا أنه متى ترك الأكل فهو ممسك له علينا معلم لما شرط الله تعالى من تعليمه فهو حينئذ مصطاد لصاحبه ممسك عليه ؛ وقوله : " إنه لو كان يصطاد لصاحبه لكان يصطاد في حال الشبع " فهو يصطاد في حال الشبع لصاحبه ويمسكه عليه إذا أرسله صاحبه ، وهو إذا كان معلما لم يمتنع من الاصطياد إذا أرسله . وأما قولك : " إنه يضرى على الصيد بأنه يطعم منه " فإنه إنما يطعم منه بعد إمساكه على صاحبه ؛ وأما ضمير الكلب ونيته فإن الكلب يعلم ما يراد منه بالتعليم فينتهي إليه ، كما يعرف الفرس ما يراد منه بالزجر ورفع السوط ونحوه ، والذي يعلم به ذلك من الكلب تركه للأكل ومتى أكل منه فقد علم منه أنه قصد بذلك إمساكه على نفسه دون صاحبه .

ومما يدل على ما ذكرنا وأن تعليم الكلب إنما يكون بتركه الأكل أنه معلوم أنه ألوف غير مستوحش ، فلا يجوز أن يكون تعليمه ليتألف ولا يستوحش ، فوجب أن يكون بتركه الأكل . والبازي من جوارح الطير وهو مستوحش في الأصل ، ولا يجوز أن يكون تعليمه بأن يضرب ليترك الأكل ، فثبت أن تعليمه بإلفه لصاحبه وزوال الوحشة منه بأن يدعوه فيجيبه ، فيزول بذلك عن طبعه الأول ويكون ذلك علما لتعليمه . وقوله تعالى : فكلوا مما أمسكن عليكم قيل فيه : إن " من " دخلت للتبعيض ، ويكون معنى التبعيض فيه أن بعض ما يمسكه علينا مباح دون جميعه ، وهو الذي يجرحه فيقتله دون ما يقتله بصدمه من غير جراحة . وقال بعضهم : إن " من " ههنا زائدة للتأكيد ، كقوله تعالى : ويكفر عنكم من سيئاتكم

وقال بعض النحويين : هذا خطأ ؛ [ ص: 315 ] لأنها لا تزاد في الموجب وإنما تزاد في النفي والاستفهام ، وقوله تعالى : ويكفر عنكم من سيئاتكم ابتداء الغاية ، أي : يكفر عنكم أعمالكم التي تحبون سترها عليكم من سيئاتكم ؛ قال : ويجوز أن يكون بمعنى يكفر عنكم من السيئات ما يجوز تكفيره في الحكمة دون ما لا يجوز ؛ لأنه خطاب عام لسائر المكلفين .

وقال أبو حنيفة في الكلب إذا أكل من الصيد وقد صاد قبل ذلك صيدا كثيرا ولم يأكل منه : " إن جميع ما تقدم حرام ؛ لأنه قد تبين حين أكل أنه لم يكن معلما ، وقد كان الحكم بتعليمه بديا حين ترك الأكل من طريق الاجتهاد وغالب الظن ، والحكم بنفي التعليم عند الأكل من طريق اليقين ، ولا حظ للاجتهاد مع اليقين ، وقد يترك الأكل بديا وهو غير معلم كما يترك سائر السباع فرائسها عند الاصطياد ولا يأكلها ساعة الاصطياد ، فإنما يحكم إذا كثر منه ترك الأكل بحكم التعليم من جهة غالب الظن ، فإذا أكل منه بعد ذلك حصل اليقين بنفي التعليم فيحرم ما قد اصطاده قبل ذلك " . وقال أبو يوسف ومحمد : " إذا ترك الأكل ثلاث مرات فهو معلم ، فإن أكل بعد ذلك لم يحرم ما تقدم من صيده ؛ لأنه جائز أن يكون قد نسي التعليم فلم يحرم ما قد حكم بإباحته بالاحتمال " .

وينبغي أن يكون مذهب أبي حنيفة محمولا على أنه أكل في مدة لا يكاد ينسى فيها ، فإن تطاولت المدة في الاصطياد ثم اصطاد فأكل منه وفي مثل تلك المدة يجوز أن ينسى فإنه ينبغي أن لا يحرم ما تقدم ، ويكون موضع الخلاف بينه وبين أبي يوسف ومحمد أنهما يعتبران في شرط التعليم ترك الأكل ثلاث مرات ، وأبو حنيفة لا يحده ، وإنما يعتبر ما يغلب في الظن من حصول التعليم ، فإذا غلب في الظن أنه معلم بترك الأكل ثم أرسل مع قرب المدة فأكل منه ، فهو محكوم بأنه غير معلم فيما ترك أكله ؛ مما تطاولت المدة بإرساله بعد ترك الأكل حتى يظن في مثلها نسيان التعليم ، لم يحرم ما تقدم ؛ وأبو يوسف ومحمد يقولان : إنه إذا ترك الأكل ثلاث مرات ثم اصطاد فأكل في مدة قريبة أو بعيدة لم يحرم ما تقدم من صيده ، فيظهر موضع الخلاف بينهم ههنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية