صفحة جزء
قوله تعالى : واذكروا اسم الله عليه قال ابن عباس والحسن والسدي : " يعني على إرسال الجوارح " . قال أبو بكر : قوله : واذكروا اسم الله عليه أمر يقتضي الإيجاب ، ويحتمل أن يرجع إلى الأكل المذكور في قوله : فكلوا مما أمسكن عليكم ويحتمل أن يعود إلى الإرسال ؛ لأن قوله : وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله قد تضمن إرسال الجوارح المعلمة على الصيد ، فجائز عود الأمر [ ص: 316 ] بالتسمية إليه ، ولولا احتمال ذلك لما تأوله السلف عليه .

وإذا كان ذلك كذلك وقد تضمن الأمر بالذكر إيجابه واتفقوا أن الذكر غير واجب على الأكل ، فوجب استعمال حكمه على الإرسال ؛ إذ كان مختلفا فيه ؛ وإذا كانت التسمية واجبة على الإرسال صارت من شرائط الذكاة ، كتعليم الجوارح وكون المرسل ممن تصح ذكاته وإسالة دم الصيد بما يجرح وله حد ، فإذا تركها لم تصح ذكاته كما لا تصح ذكاته مع ترك ما ذكرنا من شرائط الذكاة .

والذي تقتضيه الآية فساد الذكاة عند ترك التسمية عامدا وذلك ؛ لأن الأمر لا يتناول الناسي ؛ إذ لا يصح خطابه ؛ فلذلك قال أصحابنا : إن ترك التسمية ناسيا لا يمنع صحة الذكاة ؛ إذ هو غير مكلف بها في حال النسيان .

وسنذكر إيجاب التسمية على الذبيحة عند قوله : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه إذا انتهينا إليه إن شاء الله . وقد روي في التسمية على إرسال الكلب ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن كثير قال : حدثنا شعبة عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي قال : قال عدي بن حاتم : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : أرسل كلبي ؟ قال : إذا سميت فكل وإلا فلا تأكل ، وإن أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه وقال : أرسل كلبي فأجد عليه كلبا آخر ؟ قال : لا تأكل ؛ لأنك إنما سميت على كلبك فنهاه عن أكل ما لم يسم عليه وما شاركه كلب آخر لم يسم عليه ، فدل على أن من شرائط ذكاة الصيد التسمية على الإرسال . وهذا يدل أيضا على أن حال الإرسال بمنزلة حال الذبح في وجوب التسمية عليه .

وقد اختلف الفقهاء في أشياء من أمر الصيد ، منها الاصطياد بكلب المجوسي ، فقال أصحابنا ومالك والأوزاعي والشافعي : " لا بأس بالاصطياد بكلب المجوسي إذا كان معلما وإن كان الذي علمه مجوسيا بعد أن يكون الذي أرسله مسلما " . وقال الثوري : " أكره الاصطياد بكلب المجوسي إلا أن يأخذه من تعليم المسلم " . قال أبو بكر : ظاهر قوله تعالى فكلوا مما أمسكن عليكم يقتضي جواز صيده وإباحة أكله ، ولم يفرق بين أن يكون مالكه مسلما أو مجوسيا . وأيضا فإن الكلب آلة كالسكين يذبح بها والقوس يرمى عنها ، فواجب أن لا يختلف حكم الكلب لمن كان كسائر الآلات التي يصطاد بها . وأيضا فلا اعتبار بالكلب وإنما الاعتبار بالمرسل ، ألا ترى أن مجوسيا لو اصطاد بكلب مسلم لم يجز أكله ؟ وكذلك اصطياد المسلم بكلب المجوسي ينبغي أن يحل أكله .

فإن قيل : قال الله تعالى : يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من [ ص: 317 ] الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله ومعلوم أن ذلك خطاب للمؤمنين ، فواجب أن يكون تعليم المسلم شرطا في الإباحة . قيل له : لا يخلو تعليم المجوسي من أن يكون مثل تعليم المسلم المشروط في إباحة الذكاة أو مقصرا عنه ، فإن كان مثله فلا اعتبار بالمعلم وإنما الاعتبار بحصول التعليم ، ألا ترى أنه لو ملكه مسلم وهو معلم كتعليم المسلم جاز أكل ما صاده ؟ فإذا لا اعتبار بالملك وإنما الاعتبار بالتعليم . وإن كان تعليم المجوسي مقصرا عن تعليم المسلم حتى يخل عند الاصطياد ببعض شرائط الذكاة فهذا كلب غير معلم ، ولا يختلف حينئذ حكم ملك المجوسي والمسلم في حظر ما يصطاده . وأما قوله : تعلمونهن مما علمكم الله فإنه ، وإن كان خطابا للمسلمين فالمقصد فيه حصول التعليم للكلب ، فإذا علمه المجوسي كتعليم المسلم فقد وجد المعنى المشروط ، فلا اعتبار بعد ذلك بملك المجوسي .

واختلفوا في الصيد يدركه حيا ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد فيمن يدرك صيد الكلب أو السهم فيحصل في يده حيا ثم يموت : " فإنه لا يؤكل ، وإن لم يقدر على ذبحه حتى مات " . وقال مالك والشافعي : " إن لم يقدر على ذبحه حتى مات أكل ، وإن مات في يده ، وإن قدر على ذبحه فلم يذبحه لم يؤكل ، وإن لم يحصل في يده " . وقال الثوري : إن قدر أن يأخذه من الكلب فيذبحه فلم يفعله لم يؤكل " . وقال الأوزاعي : " إذا أمكنه أن يذكيه ولم يفعل لم يؤكل ، وإن لم يمكنه حتى مات بعد ما صار في يده أكل " . وقال الليث : " إن أدركه في في الكلب فأخرج سكينه من خفه أو منطقته ليذبحه فمات أكله ، وإن ذهب ليخرج السكين من خرجه فمات قبل أن يذبحه لم يأكله " . قال أبو بكر : إذا حصل في يده حيا فلا اعتبار بإمكان ذبحه أو تعذره في أن شرط ذكاته الذبح وذلك ؛ لأن الكلب إنما حل صيده لامتناع الصيد وتعذر الوصول إليه إلا من هذه الجهة ، فإذا حصل في يده حيا فقد زال المعنى الذي من أجله أبيح صيده وصار بمنزلة سائر البهائم التي يخاف عليها الموت ، فلا تكون ذكاته إلا بالذبح سواء مات في وقت لا يقدر على ذبحه أو قدر عليه ، والمعني فيه كونه في يده حيا .

فإن قيل : إنما لم تكن ذكاة سائر البهائم إلا بالذبح ؛ لأن ذبحها قد كان مقدورا عليه ، ولو ماتت حتف أنفها لم يكن ذكاة ؛ وجراحة الكلب والسهم قد كانت تكون ذكاة للصيد لو لم يحصل في يده حتى مات ، فإذا صار في يده ولم يبق من حياته بمقدار ما يدرك ذكاته فهو مذكى بجراحة الكلب ، وهو بمنزلة ما لو صار في يده بعد الموت .

قيل له : هذا على وجهين :

أحدهما : [ ص: 318 ] أن يكون الكلب قد جرحه جراحة لا يعاش من مثلها إلا مثل حياة المذبوح ، وذلك بأن يكون قد قطع أوداجه أو شق جوفه فأخرج حشوته ، فإذا كان ذلك كذلك كانت جراحته ذكاة له سواء أمكن بعد ذلك ذبحه أو لم يمكن ، فهذا الذي تكون جراحة الكلب ذكاة له ؛ وأما الوجه الآخر : فهو أن يعيش من مثلها ، إلا أنه اتفق موته بعد وقوعه في يده في وقت لم يكن يقدر على ذبحه ؛ فهذا لا يكون مذكى ؛ لأن تلك الجراحة قد كانت مراعاة على حدوث الموت قبل حصوله في يده وإمكان ذكاته ، فإذا صار في يده حيا بطل حكم الجراحة ، وصار بمنزلة سائر البهائم التي يصيبها جراحات غير مذكية لها مثل المتردية والنطيحة وغيرهما ، فلا يكون ذكاته إلا بالذبح .

واختلفوا في الصيد يغيب عن صاحبه ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر : " إذا توارى عنه الصيد والكلب وهو في طلبه فوجده قد قتله جاز أكله ، وإن ترك الطلب واشتغل بعمل غيره ثم ذهب في طلبه فوجده مقتولا والكلب عنده كرهنا أكله " وكذلك قالوا في السهم إذا رماه به فغاب عنه .

وقال مالك : " إذا أدركه من يومه أكله في الكلب والسهم جميعا ، وإن كان ميتا إذا كان فيه أثر جراحة ، وإن بات عنه لم يأكله " . وقال الثوري : " إذا رماه فغاب عنه يوما أو ليلة كرهت أكله " . وقال الأوزاعي : " إن وجده من الغد ميتا ووجد فيه سهمه أو أثرا فليأكله " . وقال الشافعي القياس أن لا يأكله إذا غاب عنه " . قال أبو بكر : روي عن ابن عباس أنه قال : " كل ما أصميت ودع ما أنميت " وفي خبر آخر عنه : " وما غاب عنك ليلة فلا تأكله " . والإصماء ما أدركه من ساعته والإنماء ما غاب عنه .

وروى الثوري عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن أبي رزين عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصيد : إذا غاب عنك مصرعه كرهه وذكر هوام الأرض . وأبو رزين هذا ليس بأبي رزين العقيلي صاحب النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو أبو رزين مولى أبي وائل . ويدل على أنه إذا تراخى عن طلبه لم يأكله أنه لا خلاف أنه لو لم يغب عنه وأمكنه أن يدرك ذكاته فلم يفعل حتى مات أنه لا يؤكل ، فإذا لم يترك الطلب وأدركه ميتا فقد علمنا أنه لم يكن يدرك ذكاته فكان قتل الكلب أو السهم له ذكاة له ، وإذا تراخى عن الطلب فجائز أن يكون لو طلبه في فوره أدرك ذكاته ثم لم يفعل حتى مات فإنه لا يؤكل ، فإذا لم يترك الطلب وأدرك حياته تيقن أن قتل الكلب ليس بذكاة له فلا يجوز أكله ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعدي بن حاتم : وإن شاركه كلب آخر فلا تأكله فلعله أن يكون الثاني قتله فحظر [ ص: 319 ] الشارع صلى الله عليه وسلم أكله حين جوز أن يكون قتله كلب آخر ، فكذلك إذا جاز أن يكون مما كان يدرك ذكاته لو طلبه فلم يفعل وجب أن لا يؤكل ، لتجويز هذا المعنى فيه .

فإن قيل : روى معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي عن أبيه عن أبي ثعلبة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يدرك صيده بعد ثلاث : " يأكله إلا أن ينتن " وروي في بعض الألفاظ : إذا أدركت بعد ثلاث وسهمك فيه فكله ما لم ينتن . قيل له : قد اتفق الجميع على رفض هذا الخبر ، وترك استعماله من وجوه :

أحدها : أن أحدا من الفقهاء لا يقول إنه إذا وجده بعد ثلاث يأكله .

والثاني : أنه أباح له أكله ما لم ينتن ، ولا اعتبار عند أحد بتغير الرائحة . والثالث : أن تغير الرائحة لا حكم له في سائر الأشياء وإنما الحكم يتعلق بالذكاة أو فقدها ، فإن كان الصيد مذكى مع تراخي المدة فلا حكم للرائحة ، وإن كان غير مذكى فلا حكم أيضا لعدم تغيره . وقد روى محمد بن إبراهيم التيمي عن عيسى بن طلحة عن عمير بن سلمة عن رجل من نهد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالروحاء ، فإذا هو بحمار وحش عقير فيه سهم قد مات ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعوه حتى يجيء صاحبه فجاء النهدي فقال : يا رسول الله هي رميتي فكلوه فأمر أبا بكر أن يقسم بين الرفاق وهم محرمون . فمن الناس من يحتج بذلك في إباحة أكله إن تراخى عن طلبه لترك النبي صلى الله عليه وسلم مسألته عن ذلك ، ولو كان ذلك يختلف حكمه لسأله ؛ وليس في هذا دليل على ما ذكر ، من قبل أنه جائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم شاهد هذا الحمار على حال استدل بها على قرب وقت الجراحة من سيلان الدم وطراوته ومجيء الرامي عقبه ، فعلم أنه لم يتراخ عن طلبه ، فلذلك لم يسأله .

فإن قيل : روى هشيم عن أبي هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن عدي بن حاتم قال : قلت يا رسول الله إنا أهل صيد يرمي أحدنا الصيد فيغيب عنه الليلة والليلتين ثم يتبع أثره بعدما يصبح فيجد سهمه فيه ؟ قال : إذا وجدت سهمك فيه ولم تجد به أثر سبع وعلمت أن سهمك قتله فكله . قيل له : هذا يوجب أن يكون لو أصابه بعد ليالي كثيرة أن يأكله إذا علم أن سهمه قتله ، ولا نعلم ذلك قول أحد من أهل العلم ؛ لأنه اعتبر العلم بأن سهمه قتله . وأيضا فإنه لا يحصل له العلم بأن سهمه قتله بعدما تراخى عن طلبه ، وقد شرط صلى الله عليه وسلم حصول العلم بذلك ، فإذا لم يعلم بذلك فواجب أن لا يأكله وهو لا يعلم إذا تراخى عن طلبه وطالت المدة أن سهمه قتله . ويدل على صحة قول أصحابنا ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : [ ص: 320 ] حدثنا محمد بن عباد قال : حدثنا محمد بن سليمان عن مشمول عن عمرو بن تميم عن أبيه عن جده قال : قلت : يا رسول الله إنا أهل بدو ونصيد بالكلاب المعلمة ونرمي الصيد ، فما يحل لنا من ذلك وما يحرم علينا ؟ قال : إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت فكل مما أمسك عليك أكل أو لم يأكل قتل أو لم يقتل ، وإذا رميت الصيد فكل مما أصميت ولا تأكل مما أنميت ؛ فحظر ما أنمى ، وهو ما غاب عنه . وهو محمول على ما غاب عنه وتراخى عن طلبه ؛ لأنه لا خلاف أنه إذا كان في طلبه أكل .

فإن قيل : فقد أباح في هذا الحديث أكل ما أكل منه الكلب ، وهو خلاف قولكم قيل له : قد عارضه حديث عدي بن حاتم ، وقد تقدم الكلام فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية