صفحة جزء
قوله تعالى : فاغسلوا وجوهكم يقتضي إيجاب الغسل والغسل اسم لإمرار الماء على الموضع إذا لم تكن هناك نجاسة ، وإذا كان هناك نجاسة فغسلها إزالتها بإمرار الماء أو ما يقوم مقامه فقوله تعالى : فاغسلوا وجوهكم إنما المقصد فيه إمرار الماء على الموضع ؛ إذ ليس هناك نجاسة مشروط إزالتها ، فإذا ليس عليه دلك الموضع بيده وإنما عليه إمرار الماء حتى يجري على الموضع . وقد اختلف في ذلك على ثلاثة أوجه : فقال مالك بن أنس : ( عليه إمرار الماء ودلك الموضع بيده وإلا لم يكن غسلا ) . وقال آخرون وهو قول أصحابنا وعامة الفقهاء : ( عليه إجراء الماء عليه وليس عليه دلكه بيده ) .

وروى هشام عن أبي يوسف : ( أنه إن مسح الموضع بالماء كما يمسح بالدهن أجزأه ) . والدليل على بطلان قول موجب دلك الموضع أن اسم الغسل يقع على إجراء الماء على الموضع من غير دلك ، والدليل على ذلك أنه لو كان على بدنه نجاسة فوالى بين صب الماء عليه حتى أزالها بذلك غاسلا وإن لم يدلكه بيده ، فلما كان الاسم يقع عليه مع عدم الدلك لأجل إمرار الماء عليه ، وقال الله تعالى : فاغسلوا فهو متى أجرى الماء على الموضع فقد فعل مقتضى الآية وموجبها ؛ فمن شرط فيه دلك الموضع بيده فقد زاد فيه ما ليس منه ، وغير جائز الزيادة في النص إلا بمثل ما يجوز به النسخ . وأيضا فإنه لما لم يكن هناك شيء يزال بالدلك لم يكن لدلك الموضع وإمساسه بيده فائدة ولا حكم ، فلم يختلف حكمه إذا دلكه بيده أو أمر الماء عليه من غير دلك . وأيضا فليس لدلك الموضع بيده حكم في الطهارة في سائر الأصول فوجب أن لا يتعلق به فيما اختلف فيه .

فإن قال قائل : إذا لم يكن الغسل مأمورا به لإزالة شيء هناك علمنا أنه عبادة فمن حيث شرط فيه إمرار الماء وجب أن يكون دلكه بيده شرطا وإلا فلا معنى لإمرار الماء وإجرائه عليه . قيل له : قد ثبت في الأصول لإمرار الماء على الموضع حكم في غسل النجاسات ولم يثبت لدلك الموضع حكم بل حكمه ساقط في إزالة الأنجاس ؛ لأنه لو كان له حكم لكان اعتبار الدلك فيها أولى ، فوجب أن يكون كذلك حكمه في طهارة الحدث . وأما من أجاز مسح هذه الأعضاء المأمور بغسلها فإن قوله مخالف لظاهر الآية ؛ لأن الله [ ص: 335 ] تعالى شرط في بعض الأعضاء الغسل وفي بعضها المسح ، فما أمر بغسله لا يجزي فيه المسح لأن الغسل يقتضي إمرار الماء على الموضع وإجراءه عليه ، ومتى لم يفعل ذلك لم يسم غاسلا ، والمسح لا يقتضي ذلك وإنما يقتضي مباشرته بالماء دون إمراره عليه ، فغير جائز ترك الغسل إلى المسح . ولو كان المراد بالغسل هو المسح لبطلت فائدة التفرقة بينهما في الآية ، وفي وجوب إثبات التفرقة بينهما ما يوجب أن يكون المسح غير الغسل ، فمتى مسح ولم يغسل فلا يجزيه لأنه لم يفعل المأمور به . ويدل على ذلك أنه ليس عليه في مسح الرأس في الوضوء إبلاغ الماء إلى أصول الشعر وإنما عليه مسح الظاهر منه ، وعليه في غسل الجنابة إبلاغ الماء أصول الشعر ؛ فلو كان المسح والغسل واحدا لأجزى في غسل الجنابة مسحه كما يجزي في الوضوء ، وفي ذلك دليل على أن ما شرط فيه الغسل لا ينوب عنه المسح .

فإن قيل : إذا لم تكن هناك نجاسة تزال بالغسل فالمقصد فيه مباشرة الموضع بالماء فلا فرق بين الغسل والمسح فيه . قيل له : هذا يدل على صحة ما ذكرنا وذلك لأنه لما لم تكن هناك نجاسة من أجلها يجب الغسل فكان وجوب الغسل عبادة ، ثم فرق الله تعالى في الآية بين الغسل والمسح ، فعلينا اتباع الأمر على حسب مقتضاه وموجبه وغير جائز لنا ترك الغسل إلى غيره ، والعبادة علينا في الغسل في الأعضاء المأمور بها كهي علينا في مسح العضو المأمور به ، فلم يجز استعمال النظر في ترك حكم اللفظ إلى غيره . فإن قيل : لو بقيت لمعة في ذراعه فمسحها جاز ، وهذا يدل على جواز مسح الجميع كما جاز مسح البعض . قيل له : هذا غلط ؛ لأن اللمعة إذا اتصلت صارت في حكم المغسول وأما إذا لم تتصل فلا يجوز بالإجماع ، ففي ذلك دلالة على أن المسح لا ينوب مناب الغسل . وقيل له : لو لزمنا هذا الوضوء للزمك في غسل الجنابة مثله . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية