صفحة جزء
باب وجوب التيمم عند عدم الماء

قال الله تعالى : فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا قال أبو بكر : شرط الوجود مختلف فيه ، والجملة التي اتفق أصحابنا عليها أن الوجود إمكان استعمال الماء الذي يكفيه لطهارته من غير ضرر فلو كان معه ماء وهو يخاف العطش أو لم يجده إلا بثمن كثير تيمم ، وليس عليه أن يغالي فيه إلا أن يجده بثمن كما يباع بغير ضرورة فيشتريه ، وإن كان أكثر من ذلك فلا يشتريه . وجعل أصحابنا جميعا شرط الوجود أن يكفيه لجميع طهارته ، وأما العلم بكونه في رحله فمختلف فيه أنه من شرط الوجود ، وسنذكره إن شاء الله . واختلف أيضا في وجوب الطلب وهل يكون غير واجد قبل الطلب , وإنما قلنا إنه إذا خاف العطش باستعماله للطهارة فهو غير واجد للماء المفروض به الطهارة ؛ لأنه متى خاف الضرر في استعماله كان معذورا في تركه إلى التيمم كالمريض ، قال الله تعالى : ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم فنفى الحرج عنا ، وهو الضيق ، وفي الأمر باستعمال الماء الذي يخاف فيه العطش أعظم الضيق ، وقد نفاه الله تعالى نفيا مطلقا ؛ وقال تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ومن العسر استعمال الماء الذي يؤديه إلى الضرر وتلف النفس ، ألا ترى أنه لو اضطر إلى شرب الماء وحضرته الصلاة ولا ماء معه غيره أنه مأمور بشربه وترك استعماله للطهارة ، فكذلك إذا خاف العطش في المستأنف باستعماله ؟ وروي نحو هذا القول فيمن خاف العطش عن علي وابن عباس والحسن وعطاء .

وإنما شرطنا أن يجده بثمن مثل قيمته في غير الضرورة من قبل أن المقدار الفاضل عن قيمته غير مستحق عليه إتلافه لأجل الطهارة ؛ إذ لا يحصل بإزائه بدل ، فكان إضاعة للمال ؛ لأن من اشترى ما يساوي درهما بعشرة دراهم فهو مضيع للتسعة ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال . وأيضا لو كان على ثوبه نجاسة ولم يجد الماء لم يكن عليه قطع موضع النجاسة لأجل الصلاة ، بل عليه أن يصلي فيه لأجل ما يلحقه من الضرر بقطعه ، فكذلك شرى الماء بثمن غال ، وأما إذا وجده بثمن مثله فعليه أن يشتريه ويتوضأ [ ص: 11 ] ولا يجزيه التيمم ، من قبل أنه ليس فيه تضييع المال ؛ إذ كان يملك بإزاء ما أخرج من ماله مثله وهو الماء الذي أخذه فكان عليه شراؤه والوضوء به .

وقد اختلف الفقهاء فيمن وجد من الماء ما لا يكفيه لطهارته ، فقال أصحابنا جميعا : ( يتيمم وليس عليه استعماله ، وكذلك لو كان جنبا فوجد ما يكفيه لوضوئه ولا يكفيه لغسله يتيمم ) . وقال مالك والأوزاعي : ( لا يستعمل الجنب هذا الماء في الابتداء ويتيمم ، فإن أحدث بعد ذلك وعنده ما يكفيه لوضوئه يتيمم أيضا ) .

وقال أصحابنا في هذه المسألة الأخيرة : ( يتوضأ بهذا الماء ما لم يجد ما يكفيه لغسله ) .

وقال الشافعي : ( عليه غسل ما قدر على غسله ويتيمم ، لا يجزيه غير ذلك ) . قال أبو بكر : قال الله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم إلى قوله تعالى : فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا فاقتضى ذلك وجوب أحد شيئين : إما الماء عند وجوده أو التراب عند عدمه ؛ لأنه أوجبه بهذه الشريطة . ولا خلاف أن من فرض هذا الرجل التيمم وأن صلاته غير مجزية إلا به ، فعلمنا أن هذا الماء ليس هو الماء المفروض به الطهارة ؛ إذ لو كان الماء المفروض به الطهارة موجودا لم تكن صحة صلاته موقوفة على فعل التيمم منه .

فإن قيل : قال الله تعالى : فلم تجدوا ماء فأباح التيمم عند عدم ماء منكور ، وذلك يتناول كل جزء منه سواء كان كافيا لطهارته أو غير كاف ، فلا يجوز التيمم مع وجوده . قيل له : الدليل على فساد هذا التأويل اتفاق الجميع على أن من فرضه التيمم وإن استعمل الماء ، فلو كان هذا القدر من الماء مأمورا باستعماله بالآية لما لزمه التيمم معه ؛ لأن الله تعالى إنما أوجب عليه التيمم عند عدم الماء الذي تصح به صلاته .

فإن قيل : فنحن لا نجيز تيممه إلا بعد عدم هذا الماء باستعماله إياه فحينئذ يتيمم . قيل له : لو كان هذا على ما ذكرت لاستغنى عن التيمم باستعمال الماء الذي معه ، فلما اتفقوا على أن عليه التيمم بعد استعماله ثبت أن هذا الماء ليس هو المفروض به الطهارة ولا ما أبيح التيمم بعدمه . وأيضا لما كان وجود هذا الماء بمنزلة عدمه في باب استباحة الصلاة به صار بمنزلة ما ليس بموجود ، فجاز له التيمم . وأيضا لما لم يجز الجمع بين غسل إحدى الرجلين والمسح على الخف في الرجل الأخرى ، لكون المسح بدلا من الغسل فلم يجز الجمع بينهما ، وجب أن لا يلزمه الجمع بين غسل الأعضاء والتيمم لهذه العلة . وأيضا فإن التيمم لا يرفع الحدث كالمسح لا يرفع الحدث عن الرجل ، فلم يجز الجمع بين ما يرفع الحدث وبين ما لا يرفعه في المسح ؛ كذلك لا يجوز الجمع بين التيمم والغسل في بعض الأعضاء على أن يكونا [ ص: 12 ] من فرضه .

وأيضا فإن التيمم بدل من غسل جميع الأعضاء وغير جائز وقوعه عن بعض الأعضاء دون بعض ، ألا ترى أنه ينوب عن الغسل تارة وعن الوضوء أخرى على أنه قام مقام جميع الأعضاء التي أوجب الحدث غسلها ؟ فلو أوجبنا عليه غسل ما يمكنه غسله مع التيمم لم يخل التيمم من أن يقوم مقام غسل بعض أعضائه أو جميعه ، فإن قام مقام ما لم يغسل منه فقد صار التيمم إنما يقع طهارة عن بعض الأعضاء ، وذلك مستحيل ؛ لأنه لا يتبعض ، فلما بطل ذلك لم يبق إلا أن يقوم مقام جميعها فيصير حينئذ متوضئا متيمما في الأعضاء المغسولة ، وذلك محال لأن الحدث زائل عن العضو المغسول فلا ينوب عنه التيمم ؛ فثبت أنه لا يجوز اجتماعهما في الوجوب . وعلى أن الشافعي يوجب عليه غسل الوجه والذراعين بذلك الماء ويتيمم مع ذلك لهذين العضوين ، فيكون تيممه في هذين العضوين قائما مقامهما ومقام العضوين الآخرين ، فيكون قد ألزمه طهارتين في هذين العضوين ، فكيف يجوز أن يكون طهارة في العضوين المغسولين وهو إذا حصل طهارة لم يرفع الحدث ويكون حكم الحدث باقيا مع وجوده ؟ فكيف يجوز وقوعه مع عدم رفع الحدث عما وقع فيه ؟ .

فإن قيل : يلزمك مثله إذا قلت مثله فيما إذا غسل بعض أعضائه ؛ لأنه ملزم التيمم ويكون ذلك طهارة لجميعه . قيل له : لا يلزمنا ذلك لأنا لا نوجب عليه استعماله فسقط حكمه إن استعمله ، وأنت توجب استعماله كما نوجبه لو وجد ما يكفيه لجميع أعضائه فكان بمنزلة من توضأ وأكمل وضوءه ، فلا يجوز أن يقوم التيمم مقام شيء منه .

فإن قال فقد يجوز عندكم الجمع بين التيمم والوضوء ولا ينافي أحدهما الآخر ، وهو الذي يجد سؤر الحمار ولا يجد غيره . قيل له : إن طهارته أحد هذين لا جميعهما ، ولذلك أجزنا له أن يبدأ بأيهما شاء ؛ لأنه مشكوك فيه عندنا فلم يسقط عنه فرض الطهارة بالشك ، فإذا جمع بينهما فالمفروض أحدهما ، كما قالوا جميعا فيمن نسي إحدى الصلوات الخمس ولا يدري أيها هي يصلي خمس صلوات حتى يصلي على اليقين ، وإنما الذي عليه واحدة لا جميعها ، كذلك هاهنا ، وأنت تزعم أن المفروض هما جميعا في مسألتنا . وأيضا لما كان التيمم بدلا من الماء كالصوم بدلا من الرقبة ولم يجز اجتماع بعض الرقبة والصوم ، وجب مثله في التيمم والماء .

فإن قيل : الصغيرة قد تجب عدتها بالشهور فإن حاضت قبل انقضائها وجب الحيض ، وكذلك ذات الحيض لو اعتدت بحيضة ثم يئست وجبت الشهور مع الحيضة المتقدمة . [ ص: 13 ] قيل له : إذا طرأ عليها ما ذكرت قبل انقضاء العدة خرج ما تقدم من أن يكون عدة معتدا به ، وأنت لا تخرج ما غسل من أن يكون طهارة ، وكذلك التيمم ودليل آخر في المسألة ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء ، والدلالة من هذا قوله : ما لم يجد الماء فأدخل عليها الألف واللام ، وذلك لأحد وجهين : إما أن تكون لاستغراق الجنس أو المعهود ، فإن كان أراد به استغراق الجنس صار في التقدير كأنه قال : التراب طهور ما لم يجد مياه الدنيا ، وإن كان أراد به المعهود فهو قولنا أيضا ؛ لأنه ليس هاهنا ماء معهود يجوز أن ينصرف الكلام إليه غير الماء الذي يقع به كمال الطهارة ، وذلك لم يوجد في مسألتنا ، فجاز تيممه بظاهر الخبر .

التالي السابق


الخدمات العلمية