صفحة جزء
واختلف فيمن وجد الماء وخاف ذهاب الوقت إن لم يتيمم ، فقال أصحابنا والثوري [ ص: 17 ] والأوزاعي والشافعي : ( من وجد الماء من مسافر أو مقيم وهو في مصر وهو في آخر الوقت فخاف إن توضأ أن يفوته الوقت لم يجزه إلا الوضوء ) . وقال مالك : ( يجزيه التيمم إذا خاف فوات الوقت ) . وقال الليث بن سعد : ( إذا خاف فوات الوقت إن توضأ يصلي بتيمم ثم أعاد بالوضوء بعد الوقت ) . والأصل فيه قوله تعالى : فلم تجدوا ماء فتيمموا فأوجب استعمال الماء في حال وجوده ونقله عنه إلى التراب عند عدمه ، فغير جائز نقله إليه مع وجوده ؛ لأنه خلاف الآية ؛ وحين أمره الله تعالى بغسل هذه الأعضاء لم يقيده بشرط بقاء الوقت وإدراك فعل الصلاة فيه ، فهو مطلق في الوقت وبعده ، وقال الله تعالى : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا فمنعه من فعل الصلاة إذا كان جنبا إلا بعد تقديم الغسل ، ولم يذكر فيه بقاء الوقت ولا غيره .

ويدل عليه من جهة السنة قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر : التراب كافيك ولو إلى عشر حجج فإذا وجدت الماء فأمسسه جلدك ، فمتى كان واجدا فعليه استعمال الماء سواء خاف فوت الوقت أو لم يخف ، لعموم قوله : فاغسلوا ولقوله صلى الله عليه وسلم : التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء فمتى كان واجدا للماء فليس التراب طهورا له فلا تجزيه صلاته . ومن جهة النظر أن فرض الطهارة آكد من فرض الوقت ، بدلالة أنه لا تجز صلاة بغير طهارة وهي جائزة مع فوات الوقت .

فإن قيل : إذا خاف فوت الوقت صلى بتيمم ليدرك فضيلة الوقت . قيل له : كيف يكون مدركا لفضيلة الوقت وهو غير مصل ؛ لأنه صلى بغير طهارة فإن قال : التيمم طهور قيل له : إنما هو طهور مع عدم الماء كما قال الله تعالى وكما شرطه النبي صلى الله عليه وسلم وأما مع وجوده فليس بطهور ، فالواجب عليك أن تدل أو لا على أنه طهور مع وجود الماء وإمكان استعماله من غير ضرر حتى تبني عليه بعد ذلك مذهبك في أنه مدرك لفضيلة الوقت .

فإن قال قائل : المسافر إنما أبيح له التيمم ليدرك الوقت لا لأجل عدم الماء .

قيل له : لو كان كذلك لما جاز له التيمم في أول الوقت في حال عدم الماء ؛ لأنه غير خائف فوت الوقت وفي اتفاق الجميع على جواز تيممه في أول الوقت دلالة على أن شرط جواز التيمم ليس هو لأجل فوات الوقت .

فإن قال : لو كان شرط التيمم عدم الماء لما جاز للمريض ولمن يخاف العطش أن يتيمم مع وجود الماء . قيل له : إنما قلنا بجوازه ؛ لأن الوجود هو إمكان استعماله بلا ضرر ولا مشقة ؛ لأن الله قد ذكر المريض والمسافر ، فعدم الماء على الإطلاق شرط وخوف الضرر [ ص: 18 ] باستعماله أيضا شرط ، وأنت فلم تلجأ في اعتبارك الوقت لا إلى آية ولا إلى أثر ، بل الكتاب والأثر يقضيان ببطلان قولك . فإن قيل : لما جازت الصلاة في حال الخوف مع الاختلاف والمشي إلى غير القبلة وراكبا لأجل إدراك الوقت ، دل على وجوب اعتبار الوقت في جوازها بالتيمم إذا خاف فوته .

قيل له : إنما أبيحت صلاة الخائف على هذه الوجوه لأجل الخوف لا للوقت ولا لغيره والخوف موجود والدليل على ذلك جواز صلاة الخوف في أول الوقت مع غلبة الظن بانصراف العدو قبل خروج الوقت ، فدل على أنها إنما أبيحت للخوف لا ليدرك الوقت ، والتيمم إنما أبيح له لعدم الماء . فنظير صلاة الخوف من التيمم أن يكون الماء معدوما فيجوز له التيمم ، فأما حال وجود الماء فهو بمنزلة زوال الخوف فلا يجوز له فعل الصلاة إلا على هيئتها في حال الأمن . وإنما جعل صلاة الخوف بمنزلة الإفطار للمسافر وبمنزلة المسح على الخفين في أنها رخصة مخصوصة بحال لا لخوف فوات الوقت . وأيضا فإنه إن فات وقته باشتغاله بالوضوء فإنه يصير إلى وقت آخر لها ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها فأخبر أن وقت الذكر مع فواتها وقت لها كما كان الوقت الذي كان قبله وقتا لها ، فإذا كان وقت الصلاة باقيا مع فواتها عن الوقت الأول لم يجز لنا ترك الطهارة بالماء لخوف فواتها من وقت إلى وقت . وقد وافقنا مالك على وجوب الترتيب بين الفائتة وبين صلاة الوقت وأن الفائتة أخص بالوقت من التي هي في وقتها ، حتى إنه لو بدأ بصلاة لوقت قبلها لم تجزه ، فلو كان خوف فوت الوقت مبيحا له التيمم لوجب أن يباح له التيمم بعد الفوات أيضا ؛ لأن كل وقت يأتي بعد الفوات هو وقت لها لا يسعه تأخيرها عنه ، فيلزم مالكا أن يجيز لمن فاتته صلاة أن يصليها بتيمم في أي وقت كان ؛ لأن اشتغاله بالوضوء يوجب تأخيرها عن الوقت المأمور بفعلها فيه والمنهي عن تأخيرها عنه . ولما اتفق الجميع على أنه غير جائز له فعلها بالتيمم مع خوف فوات وقتها الذي هو مأمور بفعلها فيه إذا اشتغل باستعمال الماء ، صح أن الوقت لا تأثير له في ترك الطهارة بالماء إلى التيمم . وأما قول الليث بن سعد ( إنه يتيمم ويصلي في الوقت ثم يتوضأ ويعيد بعد الوقت ) فلا معنى له ؛ لأنه معلوم أنه لا يعتد بتلك الصلاة ، فلا معنى لأمره بها وتأخير الفرض الذي عليه تقديمه .

التالي السابق


الخدمات العلمية