صفحة جزء
باب ما يتيمم به

قال الله تعالى : فتيمموا صعيدا طيبا اختلف الفقهاء فيما يجوز به التيمم ، فقال أبو حنيفة : ( يجزي التيمم بكل ما كان من الأرض : التراب والرمل والحجارة والزرنيخ والنورة والطين الأحمر والمرداسنج وما أشبهه ) ، وهو قول محمد وزفر ، وكذلك يجزي بالكحل والآجر المدقوق في قوله ما رواه محمد ؛ ورواه أيضا الحسن بن زياد عن أبي حنيفة . وإن تيمم ببورق أو رماد أو ملح أو نحوه لم يجز عندهم ، وكذلك الذهب والفضة في قولهم . وقال أبو يوسف : ( لا يجزي إلا أن يكون ترابا أو رملا ) . وإن ضرب يده على صخرة أو حائط لا صعيد عليه ما أجزأه في قول أبي حنيفة ، وقال أبو يوسف : ( لا يجزيه ) .

وروى المعلى عن أبي يوسف أنه إن تيمم بأرض لا صعيد عليها لم يجزه وهو بمنزلة الحائط ، وهو قوله [ ص: 30 ] الآخر . وقال الثوري : ( يجوز بالزرنيخ والنورة ونحوهما وكل ما كان من تراب الأرض ، ولا يتيمم بالآجر ) . وقال مالك : ( يتيمم بالحصى والجبل ) وكذلك حكى عنه أصحابه في الزرنيخ والنورة ونحوهما ، قال : ( وإن تيمم بالثلج ولم يصل إلى الأرض أجزأه ، وكذلك الحشيش إذا كان ممتدا ) .

وروى أشهب عن مالك أنه لا يتيمم بالثلج . وقال الشافعي : ( يتيمم بالتراب مما تعلق باليد ) . قال أبو بكر : لما قال الله : فتيمموا صعيدا طيبا وكان الصعيد اسما للأرض ، اقتضى ذلك جواز التيمم بكل ما كان من الأرض ؛ وأخبرنا أبو عمر غلام ثعلب عنه عن ابن الأعرابي قال : الصعيد الأرض ، والصعيد التراب ، والصعيد القبر ، والصعيد الطريق . فكل ما كان من الأرض فهو صعيد فيجوز التيمم به بظاهر الآية .

فإن قيل : إنما أباح التيمم بالصعيد الطيب ، والأرض الطيبة هي التي تنبت ، والجص والزرنيخ لا ينبت شيئا ، فليس إذا بطيب ، قال الله تعالى : والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه قيل له : إنما أراد بالطيب الطاهر المباح ، كقوله تعالى : كلوا من طيبات ما رزقناكم فأفاد بذلك إيجاب التيمم بالصعيد الطاهر دون النجس . وأما قوله : والبلد الطيب فإنما يريد به ما ليس بسبخة لأنه قال : والذي خبث لا يخرج إلا نكدا ولا خلاف في جواز التيمم بالسبخة التي لا تخرج مثل ما يخرج غيرها ، فعلمنا أنه لم يرد بالطيب ما ذكرت . وقد روى أبو ظبيان عن ابن عباس قال : ( الطيب الصعيد الجرز ) أو قال : ( الأرض الجرز ) .

وقال ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : فتيمموا صعيدا طيبا قال : أطيب ما حولك . ويدل عليه أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم : جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، وهو يدل من وجهين على ما ذكرنا ، أحدهما : إخباره أن الأرض طهور ، فكل ما كان من الأرض فهو طهور بمقتضى الخبر . والآخر : أن ما جعله من الأرض مسجدا هو الذي جعله طهورا ، وسائر ما ذكر هو من الأرض وهي مسجد ، فيجوز التيمم به بحق العموم . وروى عمرو بن دينار عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة : أن أعرابا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله إنا نكون في هذه الرمال لا نقدر على الماء ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر وفينا النفساء والحائض والجنب ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : عليكم بأرضكم فأفاد بذلك جوازه بكل ما كان من الأرض . ولما ذكرنا من عموم الآية والخبر أجزنا التيمم بالحجر والحائط لأنه من الأرض ؛ لأنها تشتمل على أنواع مختلفة ولا يخرجها اختلاف أنواعها من كون جميعها صعيدا ؛ وقال تعالى : فتصبح صعيدا زلقا [ ص: 31 ] يعني الأرض الملساء التي لا شيء عليها . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : يحشر الناس عراة حفاة في صعيد واحد يعني الأرض المستوية التي ليس عليها شيء ، كقوله تعالى : فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا فلا فرق بين ما عليه منها تراب أو لا تراب عليه ، لوقوع الاسم عليه على الإطلاق .

فإن قيل : إن الآجر وإن كان أصله من الأرض فقد انتقل عن طبع الأرض بالطبخ وحال عن حد التراب ، فهو كالماء المنتقل عن حاله بما يدخل عليه من الرياحين والأصباغ حتى يحول إلى جنس آخر ويزول عنه الاسم الأول ، وكالزجاج ؛ فلا يجوز الوضوء به . قيل له : إنما لم يجز الوضوء بالماء الذي ذكرت لغلبة غيره عليه حتى أزال عنه اسم الماء ، وأما الآجر فلا يخالطه ما يخرجه عن حد الأرض ، وإنما حدثت فيه صلابة بالإحراق فهو كالحجر ، فلا يمنع ذلك التيمم به ؛ وقد روى ابن عمر : أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده على الحائط فتيمم به ؛ وروي : أنه نفض يديه حين وضعهما على التراب وأنه نفخهما فعلمنا أن المقصد فيه وضع اليد على ما كان من الأرض لا على أنه يحصل في يده أو وجهه شيء منه ، ولو كان المقصد أن يحصل في يده منه شيء لأمر بحمل التراب على يده ومسح الوجه به كما أمر بأخذ الماء للغسل أو للمسح حتى يحصل في وجهه ، فلما لم يأمر بأخذ التراب ونفض النبي صلى الله عليه وسلم يديه ونفخهما علمنا أنه ليس المقصد حصول التراب في وجهه .

فإن قيل : قوله تعالى : فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه يقتضي حصول شيء منه في الأعضاء الممسوحة به . قيل له : إنما أفاد بذلك تأكيد وجوب النية فيه ؛ لأن ( من ) قد تكون لبدء الغاية كقولك : خرجت من الكوفة ، وهذا كتاب من فلان إلى فلان ؛ فيكون معناه على هذا : ليكن ابتداء الأخذ من الأرض حتى يتصل بالوجه واليد بلا فاصل يفصل بين الأخذ وبين المسح فينقطع حكم النية ويحتاج إلى تجديدها ، وهو كقولك : توضأ من النهر ؛ يعني أن ابتداء أخذه من النهر إلى أن اتصل بأعضاء الوضوء من غير قطع ، ألا ترى أنه لو أخذه من النهر في إناء وتوضأ منه لم يقل إنه توضأ من النهر ؟ ويحتمل أن يكون قوله : فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه يعني من بعضه ، وأفاد به أن أي بعض منه مسحتم به على جهة الإطلاق والتوسعة . وأما الذهب والفضة واللؤلؤ ونحوها فلا يجوز التيمم بها ؛ لأنها ليست من طبع الأرض وإنما هي جواهر مودوعة فيها ، قال النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الركاز : هو الذهب والفضة اللذان خلقهما الله تعالى في الأرض يوم [ ص: 32 ] خلقت .

واللؤلؤ من الصدف ، والصدف من حيوان الماء ؛ وأما الرماد فهو من الخشب ونحوه ، ومع ذلك فليس هو من طبع الأرض ولا من جوهرها . وأما الثلج والحشيش فهما كالدقيق والحبوب ونحوها ، فلا يجوز التيمم بها ؛ لأنها ليست من الصعيد ، ولا يجوز نقل الأبدال إلى غيرها إلا بتوقيف ، فلما جعل الله الصعيد بدلا من الماء لم يجز لنا إثبات بدل منه إلا بتوقيف ، ولو جاز ذلك لجاز أن يضرب يده على ثوب لا غبار عليه فيتيمم به ، ولجاز التيمم بالقطن والحبوب ؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم : جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا قال : وترابها لنا طهور وقد اتفقوا على امتناع جوازه بالثلج والحشيش إذا وصل إلى الأرض ، فلو كان مما يجوز التيمم به لجاز مع وجود التراب ؛ لأن التيمم بالصعيد بدل فلا ينتقل إلى بدل غيره .

فإن قيل : إذا لم يصل إلى الأرض فهو كالزرنيخ والنورة والمغرة إذا كان بينه وبين الأرض . قيل له : الزرنيخ ونحوه من الأرض ، ويجوز التيمم به مع وجود التراب وعدمه ، وليس هو مع ذلك حائلا بيننا وبين الأرض وإنما الأرض في الأغلب حائلة بيننا وبينه ، فكيف يشبهه الثلج والحشيش وإن تيمم بغبار ثوب أو لبد وقد نفضه جاز عند أبي حنيفة ولا يجوز عند أبي يوسف ، وإنما جاز عند أبي حنيفة لأن الغبار الذي فيه من الأرض ، ولا يختلف حكمه في كونه في الثياب أو على الأرض ، كما أن الماء لا يختلف حكمه في كونه في إناء أو نهر أو ما عصر من ثوب مبلول . وذهب أبو يوسف في ذلك كله إلى أن هذا لا يسمى ترابا على الإطلاق فلا يجوز التيمم به ، ومن أجل ذلك لم يجز التيمم بأرض لا تراب عليها ، وجعلها بمنزلة الحجر على أصله .

وروى قتادة عن نافع عن ابن عمر ، أن عمر صلى على مسح من ثلج أصابه وأرادوا أن يتيمموا فلم يجدوا ترابا ، فقال : ( لينفض أحدكم ثوبه أو صفة سرجه فيتيمم به ) . وروى هشام بن حسان عن الحسن قال : ( إذا لم يجد الماء ولم يصل إلى الأرض ضرب بيده على لبده وسرجه ثم يتيمم به ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية