صفحة جزء
ذكر الخلاف في اعتبار ما يجب فيه الحق فقال أبو حنيفة وزفر : يجب العشر في قليل ما تخرجه الأرض وكثيره إلا ما قدمنا ذكره . وقال أبو يوسف ومحمد ومالك وابن أبي ليلى والليث والشافعي : { لا يجب حتى يبلغ ما يجب فيه الحق خمسة أوسق } وذلك إذا كان ما يجب فيه الحق مكيلا ، فإن لم يكن مكيلا فإن أبا يوسف اعتبر أن يكون فيه خمسة أوسق من أدنى الأشياء التي تدخل في الوسق مما يجب فيه العشر إلا في العسل ، فإنه روي عنه أنه اعتبر عشرة أرطال ، وروي أنه اعتبر عشر قرب ، وروي أنه اعتبر قيمة خمسة أوسق من أدنى ما يدخل في الوسق .

وأما محمد فإنه ينظر إلى أعلى ما يقدر به ذلك الشيء فيعتبر منه أن يبلغ خمسة أمثال ، وذلك نحو الزعفران ، فإن أعلى مقاديره منا فيعتبر بلوغه خمسة أمناء ؛ لأن ما زاد على المن فإنه يضاعف أو ينسب إليه فيقال منوان وثلاثة ونصف من وربع من ، ويعتبر في القطن خمسة أحمال ؛ لأن الحمل أعلى مقاديره وما زاد فتضعيف له ، وفي العسل خمسة أفراق لأن الفرق أعلى ما يقدر به ويحتج لأبي حنيفة في ذلك بقوله تعالى : وآتوا حقه يوم حصاده وذلك عائد إلى جميع المذكور ، فهو عموم فيه وإن كان مجملا في المقدار الواجب ؛ لأن قوله : حقه مجمل مفتقر إلى البيان ، وقد ورد البيان في مقدار الواجب وهو العشر أو نصف العشر ويحتج فيه بقوله تعالى : أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض وذلك عام في جميع الخارج ؛ ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم : فيما سقت السماء العشر ولم يفصل بين القليل والكثير ومن جهة النظر اتفاق الجميع على سقوط اعتبار الحول فيه ، فوجب أن يسقط اعتبار المقدار كالركاز والغنائم واحتج معتبرو المقدار بما روى محمد بن مسلم الطائفي قال : أخبرنا عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا صدقة في شيء من الزرع أو الكرم أو النخل حتى يبلغ خمسة أوسق .

وروى ليث بن أبي سليم عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ورواه أيوب بن موسى عن نافع عن ابن عمر موقوفا عليه وروى ابن المبارك عن معمر عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله . والجواب عن هذا لأبي حنيفة من وجوه :

أحدها : [ ص: 182 ] أنه إذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم خبران أحدهما عام والآخر خاص واتفق الفقهاء على استعمال أحدهما واختلف في استعمال الآخر ، فالمتفق على استعماله قاض على المختلف فيه ، فلما كان خبر العشر متفقا على استعماله واختلفوا في خبر المقدار كان استعمال خبر العشر على عمومه أولى وكان قاضيا على المختلف فيه ، فإما أن يكون الآخر منسوخا أو يكون تأويله محمولا على معنى لا ينافي شيئا من خبر العشر وأيضا فإن قوله : فيما سقت السماء العشر عام في إيجابه في الموسوق وغيره ، وخبر الخمسة أوسق خاص في الموسوق دون غيره ، فغير جائز أن يكون بيانا لمقدار ما يجب فيه العشر ؛ لأن حكم البيان أن يكون شاملا لجميع ما اقتضى البيان ، فلما كان خبر الأوساق مقصورا على ذكر مقدار الوسق دون غيره وكان خبر العشر عموما في الموسوق وغيره علمنا أنه لم يرد مورد البيان لمقدار ما يجب فيه العشر وأيضا فإن ذلك يقتضي أن يكون ما يوسق يعتبر في إيجاب الحق بلوغ مقداره خمسة أوسق ، وما ليس بموسوق يجب في قليله وكثيره لقوله صلى الله عليه وسلم : فيما سقت السماء العشر .

وفقد ما يوجب تخصيص مقدار ما لا يدخل في الأوساق ، وهذا قول مطروح والقائل به ساقط مرذول لاتفاق السلف والخلف على خلافه ، وليس ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم : في الرقة ربع العشر وقوله : ليس فيما دون خمس أواق زكاة وذلك لأنه لا شيء من الرقة إلا وهو داخل في الوزن ، والأواقي مذكورة للوزن ، فجاز أن يكون بيانا لمقدار جميع الرقة المذكورة في الخبر الآخر وأيضا فقد ذكرنا أن لله حقوقا واجبة في المال غير الزكاة ثم نسخت بالزكاة ، كما روي عن أبي جعفر محمد بن علي والضحاك قالا : { نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن } ، فجائز أن يكون هذا التقدير معتبرا في الحقوق التي كانت واجبة فنسخت ، نحو قوله تعالى : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه ونحو ما روي عن مجاهد : إذا حصدت طرحت للمساكين وإذا كدست وإذا نقيت ، وإذا علمت كيله عزلت زكاته ، وهذه الحقوق غير واجبة اليوم ، فجائز أن يكون ما روي من تقدير الخمسة الأوسق كان معتبرا في تلك الحقوق ، وإذا احتمل ذلك لم يجز تخصيص الآية والأثر المتفق على نقله به وأيضا فقد روي : ليس فيما دون خمسة أوسق زكاة ، فجائز أن يريد به زكاة التجارة بأن يكون سأل سائل عن أقل من خمسة أوسق طعام أو تمر للتجارة ، فأخبر أن لا زكاة فيه لقصور قيمته عن النصاب في ذلك الوقت ، فنقل الراوي كلام النبي صلى الله عليه وسلم وترك ذكر السبب [ ص: 183 ] كما يوجد ذلك في كثير من الأخبار .

التالي السابق


الخدمات العلمية