صفحة جزء
باب الهدنة والموادعة قال الله تعالى : وإن جنحوا للسلم فاجنح لها والجنوح الميل ، ومنه يقال : جنحت السفينة إذا مالت ، والسلم المسالمة . ومعنى الآية أنهم إن مالوا إلى المسالمة ، وهي طلب السلامة من الحرب ، فسالمهم واقبل ذلك منهم . وإنما قال : فاجنح لها لأنه كناية عن المسالمة . وقد اختلف في بقاء هذا الحكم ، فروى سعيد ومعمر عن قتادة أنها منسوخة بقوله تعالى : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وروي عن الحسن مثله .

وروى ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني عن ابن عباس : وإن جنحوا للسلم فاجنح لها قال : نسختها قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله وهم صاغرون وقال آخرون : { لا نسخ فيها لأنها في موادعة أهل الكتاب ، وقوله تعالى : فاقتلوا المشركين في عبدة الأوثان } . قال أبو بكر : قد كان النبي صلى الله عليه وسلم عاهد حين قدم المدينة أصنافا من المشركين ، منهم النضير وبنو قينقاع وقريظة ، وعاهد قبائل من المشركين ، ثم كانت بينه وبين قريش هدنة الحديبية إلى أن نقضت قريش ذلك العهد بقتالها خزاعة خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ولم يختلف نقلة السير والمغازي في ذلك ، وذلك قبل أن يكثر أهل الإسلام ويقوى أهله ، فلما كثر المسلمون وقوي الدين أمر بقتل مشركي العرب ولم يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف بقوله عز وجل : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وأمر بقتال أهل الكتاب حتى يسلموا أو يعطوا الجزية بقوله تعالى : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله [ ص: 255 ] وهم صاغرون ولم يختلفوا أن سورة براءة من أواخر ما نزل من القرآن ، وكان نزولها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على الحج في السنة التاسعة من الهجرة ، وسورة الأنفال نزلت عقيب يوم بدر بين فيها حكم الأنفال والغنائم والعهود والموادعات ، فحكم سورة براءة مستعمل على ما ورد وما ذكر من الأمر بالمسالمة إذا مال المشركون إليها حكم ثابت أيضا .

وإنما اختلف حكم الآيتين لاختلاف الحالين ، فالحال التي أمر فيها بالمسالمة هي حال قلة عدد المسلمين وكثرة عدوهم ، والحال التي أمر فيها بقتل المشركين وبقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية هي حال كثرة المسلمين وقوتهم على عدوهم ، وقد قال تعالى : فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم فنهى عن المسالمة عند القوة على قهر العدو وقتلهم ؛ وكذلك قال أصحابنا : إذا قدر بعض أهل الثغور على قتال العدو ومقاومتهم لم تجز لهم مسالمتهم ولا يجوز لهم إقرارهم على الكفر إلا بالجزية ، وإن ضعفوا عن قتالهم جاز لهم مسالمتهم كما سالم النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا من أصناف الكفار وهادنهم على وضع الحرب بينهم من غير جزية أخذها منهم ؛ قالوا :

فإن قووا بعد ذلك على قتالهم نبذوا إليهم على سواء ثم قاتلوهم ؛ قالوا : وإن لم يمكنهم دفع العدو عن أنفسهم إلا بمال يبذلونه لهم جاز لهم ذلك ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان صالح عيينة بن حصن وغيره يوم الأحزاب على نصف ثمار المدينة ، حتى لما شاور الأنصار قالوا : يا رسول الله أهو أمر أمرك الله به أم الرأي والمكيدة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا بل هو رأي لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة فأردت أن أدفعهم عنكم إلى يوم ما فقال السعدان سعد بن عبادة وسعد بن معاذ : والله يا رسول الله إنهم لم يكونوا يطمعون فيها منا إلا قرى وشرى ونحن كفار ، فكيف وقد أعزنا الله بالإسلام ؟ لا نعطيهم إلا السيف وشقاء الصحيفة فهذا يدل على أنهم إذا خافوا المشركين جاز لهم أن يدفعوهم عن أنفسهم بالمال .

فهذه أحكام بعضها ثابت بالقرآن وبعضها بالسنة ، وهي مستعملة في الأحوال التي أمر الله تعالى بها ، واستعملها النبي صلى الله عليه وسلم فيها ، وهذا نظير ما ذكرنا في ميراث الحليف أنه حكم ثابت بقوله تعالى : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم في حال عدم ذوي الأنساب وولاء العتاق ، فإذا كان هناك ذو نسب أو ولاء عتاقة فهم أولى من الحليف كما أن الابن أولى من الأخ ولم يخرج من أن يكون من أهل الميراث .

التالي السابق


الخدمات العلمية