صفحة جزء
باب التوارث بالهجرة قال الله تعالى إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا الآية حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج ، وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله الآية قال كان المهاجر لا يتولى الأعرابي ، ولا يرثه وهو مؤمن ، ولا يرث الأعرابي المهاجر فنسختها وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله .

وروى عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي عن القاسم قال آخى رسول الله بين الصحابة ، وآخى بين عبد الله بن مسعود ، والزبير بن العوام أخوة يتوارثون بها ؛ [ ص: 262 ] لأنهم هاجروا وتركوا أقرباءهم حتى أنزل الله آية المواريث قال أبو بكر اختلف السلف في أن التوارث كان ثابتا بينهم بالهجرة والأخوة التي آخى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم دون الأرحام ، وأن ذلك مراد هذه الآية ، وأن قوله تعالى أولئك بعضهم أولياء بعض قد أريد به إيجاب التوارث بينهم ، وأن قوله ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا قد نفى إثبات التوارث بينهم بنفيه الموالاة بينهم .

وفي هذا دلالة على أن إطلاق لفظ الموالاة يوجب التوارث ، وإن كان قد يختص به بعضهم دون جميعهم على حسب وجود الأسباب المؤكدة له كما أن النسب سبب يستحق به الميراث ، وإن كان بعض ذوي الأنساب أولى به في بعض الأحوال لتأكد سببه ، وفي هذا دليل على أن قوله تعالى ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا موجب لإثبات القود لسائر ورثته ، وأن النساء والرجال في ذلك سواء لتساويهم في كونهم من مستحقي ميراثه ، ويدل أيضا على أن الولاية في النكاح مستحقة بالميراث ، وأن قوله صلى الله عليه وسلم لا نكاح إلا بولي مثبت للولاية لجميع من كان من أهل الميراث على حسب القرب ، وتأكيد السبب ، وأنه جائز للأم تزويج أولادها الصغار إذا لم يكن لهم أب على ما يذهب إليه أبو حنيفة ؛ إذ كانت من أهل الولاية في الميراث ، وقد كانت الهجرة فرضا حين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة فقال لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية فنسخ التوارث بالهجرة بسقوط فرض الهجرة ، وأثبت التوارث بالأنساب بقوله تعالى وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله قال الحسن كان المسلمون يتوارثون بالهجرة حتى كثر المسلمون فأنزل الله تعالى وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض فتوارثوا بالأرحام ، وروى الأوزاعي عن عبدة عن مجاهد عن ابن عمر قال انقطعت الهجرة بعد الفتح .

وروى الأوزاعي أيضا عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة مثله ، وزاد فيه : ولكن جهاد ونية ، وإنما كانت الهجرة إلى الله ورسوله ، والمؤمنون يفرون بدينهم من أن يفتنوا عنه ، وقد أذاع الله الإسلام وأفشاه فتضمنت هذه الآية إيجاب التوارث بالهجرة ، والمؤاخاة دون الأنساب ، وقطع الميراث بين المهاجر وبين من لم يهاجر ، واقتضى أيضا إيجاب نصرة المؤمن الذي لم يهاجر إذا استنصر المهاجر على من لم يكن بينهم وبينه عهد بقوله تعالى وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق وقد روي في قوله تعالى ما لكم من ولايتهم [ ص: 263 ] من شيء حتى يهاجروا ما قد بينا ذكره في نفي الميراث عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة في آخرين .

وقيل : إنه أراد نفي إيجاب النصرة فلم تكن حينئذ على المهاجر نصرة ومن لم يهاجر إلا أن يستنصر فتكون عليه نصرته إلا على من كان بينه وبينه عهد فلا ينقض عهده ، وليس يمتنع أن يكون نفي الولاية مقتضيا للأمرين جميعا من نفي التوارث والنصرة ثم نسخ نفي الميراث بإيجاب التوارث بالأرحام مهاجرا كان أو غير مهاجر ، وإسقاطه بالهجرة فحسب ، ونسخ نفي إيجاب النصرة بقوله تعالى والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض قوله تعالى والذين كفروا بعضهم أولياء بعض قال ابن عباس والسدي يعني في الميراث ، وقال قتادة في النصرة والمعاونة ، وهو قول ابن إسحاق قال أبو بكر لما كان قوله تعالى إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا إلى قوله أولئك بعضهم أولياء بعض موجبا لإثبات التوارث بالهجرة ، وكان قوله تعالى : والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا نافيا للميراث ، وجب أن يكون قوله تعالى : والذين كفروا بعضهم أولياء بعض موجبا لإثبات التوارث بينهم ؛ لأن الولاية قد صارت عبارة عن إثبات التوارث بينهم فاقتضى عمومه إثبات التوارث بين سائر الكفار بعضهم من بعض مع اختلاف مللهم ؛ لأن الاسم يشملهم ويقع عليهم .

ولم تفرق الآية بين أهل الملل بعد أن يكونوا كفارا ، ويدل أيضا على إثبات ولاية الكفار على أولادهم الصغار لاقتضاء اللفظ له في جواز النكاح والتصرف في المال في حال الصغر والجنون .

وقوله تعالى : إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير يعني والله أعلم : إن لا تفعلوا ما أمرتم به في هاتين الآيتين من إيجاب الموالاة والتناصر والتوارث بالأخوة والهجرة ومن قطعها بترك الهجرة تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ، وهذا مخرجه مخرج الخبر ، ومعناه الأمر ؛ وذلك لأنه إذا لم يتول المؤمن الفاضل على ظاهر حاله من الإيمان والفضل بما يدعو إلى مثل حاله ، ولم يبرأ من الفاجر والضال بما يصرفه عن ضلاله وفجوره أدى ذلك إلى الفساد والفتنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية