صفحة جزء
باب الفقير الذي يجوز أن يعطى من الصدقة . قال أبو بكر رحمه الله : اختلف أهل العلم في المقدار الذي إذا ملكه الرجل دخل به في حد الغني ، وخرج به من حد الفقير ، وحرمت عليه الصدقة ، فقال قوم : { إذا كان عند أهله ما يغديهم ويعشيهم حرمت عليه الصدقة بذلك ، ومن كان عنده دون ذلك حلت له الصدقة } ، واحتجوا بما رواه عبد الرحمن عن يزيد بن جابر قال : حدثني ربيعة بن يزيد عن أبي كبشة السلولي قال : حدثني سهيل بن الحنظلة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من سأل الناس عن ظهر غنى فإنما يستكثر من جمر جهنم ، قلت : يا رسول الله ما ظهر غنى ؟ قال : أن يعلم أن عند أهله ما يغديهم ويعشيهم . وقال آخرون : { حتى يملك أربعين درهما أو عدلها من الذهب } ، واحتجوا بما روى مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول لرجل : من سأل منكم ، وعنده أوقية أو عدلها فقد سأل [ ص: 331 ] إلحافا ، والأوقية يومئذ أربعون درهما . وقالت طائفة : { حتى يملك خمسين درهما أو عدلها من الذهب } ، واحتجوا في ذلك بما روى الثوري عن حكيم بن جبير عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يسأل عبد مسألة ، وله ما يغنيه إلا جاءت شيئا أو كدوحا أو خدوشا في وجهه يوم القيامة ، قيل : يا رسول الله ، وما غناه ؟ قال : خمسون درهما أو حسابها من الذهب . وروى الحجاج عن الحسن بن سعد عن أبيه عن علي وعبد الله قالا : لا تحل الصدقة لمن له خمسون درهما أو عوضها من الذهب . وعن الشعبي قال : لا يأخذ الصدقة من له خمسون درهما ، ولا نعطي منها خمسين درهما . وقال آخرون : { حتى يملك مائتي درهم أو عدلها من عرض أو غيره فاضلا عما يحتاج إليه من مسكن وخادم وأثاث وفرس } وهو قول أصحابنا . والدليل على ذلك ما روى أبو بكر الحنفي قال : حدثنا عبد الله بن جعفر قال : حدثني أبي عن رجل من مزينة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : من سأل وله عدل خمس أواق سأل إلحافا . ويدل عليه ما روى الليث بن سعد قال : حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر أنه سمع أنس بن مالك يقول : إن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا ؟ فقال : اللهم نعم .

وروى يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد عن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث معاذا إلى اليمن قال له : أخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم ، وترد إلى فقرائهم . وروى الأشعث عن ابن أبي جحيفة عن أبيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ساعيا على الصدقة ، فأمره أن يأخذ الصدقة من أغنيائنا فيقسمها في فقرائنا . فلما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الناس صنفين فقراء وأغنياء ، وأوجب أخذ الصدقة من صنف الأغنياء ، وردها في الفقراء ، لم تبق هاهنا واسطة بينهما ، ولما كان الغني هو الذي ملك مائتي درهم ، وما دونها لم يكن مالكها غنيا وجب أن يكون داخلا في الفقراء فيجوز له أخذها ، ولما اتفق الجميع على أن من كان له دون الغداء والعشاء تحل له الصدقة علمنا أنها ليست إباحتها موقوفة على الضرورة التي تحل معها الميتة ، فوجب اعتبار ما يدخل به في حد الغنى ، وهو أن يملك فضلا عما يحتاج إليه مما وصفنا مائتي درهم أو مثلها من عرض أو غيره ، وأما ملك الأربعين درهما ، والخمسين الدرهم على ما روي في الأخبار التي قدمنا فإن هذه الأخبار واردة في كراهة المسألة لا في تحريمها ، وقد تكره المسألة لمن عنده ما يعنيه في الوقت لا سيما في أول ما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة [ ص: 332 ] مع كثرة فقراء المسلمين ، وقلة ذات أيديهم ، فاستحب النبي صلى الله عليه وسلم لمن عنده ما يكفيه ترك المسألة ليأخذها من هو أولى منه ممن لا يجد شيئا ، وهو نحو قوله صلى الله عليه وسلم : من استغنى أغناه الله ، ومن استعف أعفه الله ، ومن لا يسألنا أحب إلينا ممن يسألنا . وقوله صلى الله عليه وسلم : لأن يأخذ أحدكم حبلا فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه .

وقد روي عن فاطمة بنت الحسين عن الحسين بن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : للسائل حق ، وإن جاء على فرس فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء السائل مع ملكه للفرس والفرس في أكثر الحال تساوي أكثر من أربعين درهما أو خمسين درهما ، وقد روى يحيى بن آدم قال : حدثنا علي بن هاشم عن إبراهيم بن يزيد المكي عن الوليد بن عبيد الله عن ابن عباس قال : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لي أربعين درهما أفمسكين أنا ؟ قال : نعم . .

وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا يعقوب بن يوسف المطوعي قال : حدثنا أبو موسى الهروي قال : حدثنا المعافى قال : حدثنا إبراهيم بن يزيد الجزري قال : حدثنا الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث عن ابن عباس قال : قال رجل : يا رسول الله عندي أربعون درهما أمسكين أنا ؟ قال : نعم ، فأباح له الصدقة مع ملكه لأربعين درهما حين سماه مسكينا ، إذ كان الله قد جعل الصدقة للمساكين ، وروى أبو يوسف عن غالب بن عبيد الله عن الحسن قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل أحدهم الصدقة وله من السلاح والكراع والعقار قيمة عشرة آلاف درهم . وروى الأعمش عن إبراهيم قال : كانوا لا يمنعون الزكاة من له البيت والخادم . وروى شعبة عن قتادة عن الحسن قال : من له مسكن وخادم أعطي من الزكاة .

وروى جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير قال : { يعطى من له دار وخادم وفرس وسلاح يعطى من إذا لم يكن له ذلك الشيء واحتاج إليه } . وقد اختلف في ذلك من وجه آخر ، فقال قائلون : { من كان قويا مكتسبا لم تحل له الصدقة وإن لم يملك شيئا } ، واحتجوا بما روى أبو بكر بن عياش عن أبي حصين عن سالم بن أبي الجعد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تحل الصدقة لغني ، ولا لذي مرة سوي ورواه أبو بكر بن عياش أيضا عن أبي جعفر عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله .

وروى سعد بن إبراهيم عن ريحان بن يزيد عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تحل الصدقة لغني ، ولا لقوي مكتسب ، وهذا عندنا على وجه الكراهة لا على جهة التحريم ، على النحو الذي ذكرنا في كراهة المسألة .

فإن قيل : قوله : لا تحل الصدقة لغني على [ ص: 333 ] وجه التحريم وامتناع جواز إعطائه الزكاة ، كذلك القوي المكتسب . قيل له : يجوز أن يريد الغنى الذي يستغني به عن المسألة ، وهو أن يكون له أقل من مائتي درهم ، لا الغنى الذي يجعله في حيز من يملك ما تجب في مثله الزكاة ، إذ قد يجوز أن يسمى غنيا لاستغنائه بما يملكه عن المسألة ، ولم يرد به الغنى الذي يتعلق بملك مثله وجوب الغنى ، فكان قوله : لا تحل الصدقة لغني ، ولا لذي مرة سوي على وجه الكراهة للمسألة لمن كان في مثل حاله .

وعلى أن حديث أبي هريرة هذا في قوله : لا تحل الصدقة لغني ، ولا لذي مرة سوي مختلف في رفعه ، فرواه أبو بكر بن عياش مرفوعا على ما قدمنا ، ورواه أبو يوسف عن حصين عن أبي حازم عن أبي هريرة من قوله غير مرفوع ، وحديث عبد الله بن عمرو رواه شعبة ، والحسن بن صالح عن سعد بن إبراهيم عن ريحان بن يزيد عن عبد الله بن عمرو موقوفا عليه من قوله ، وقال : لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي . ورواه سفيان عن سعد بن إبراهيم عن ريحان بن يزيد عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تحل الصدقة لغني ولا لقوي مكتسب ، فاختلفوا في رفعه ، وظاهر قوله تعالى : إنما الصدقات للفقراء والمساكين عام في سائرهم من قدر منهم على الكسب ، ومن لم يقدر ، وكذلك قوله تعالى : في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم يقتضي وجوب الحق للسائل القوي المكتسب ، إذ لم تفرق الآية بينه وبين غيره ، ويدل أيضا قوله تعالى : للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ولم يفرق بين القوي المكتسب وبين من لا يكتسب من الضعفاء . فهذه الآيات كلها قاضية ببطلان قول القائل بأن الزكاة لا تعطى الفقير إذا كان قويا مكتسبا ، ولا يجوز تخصيصها بخبر أبي هريرة ، وعبد الله بن عمرو اللذين ذكرنا لاختلافهم في رفعه ، واضطراب متنه ؛ لأن بعضهم يقول : { قوي مكتسب } وبعضهم : { لذي مرة سوي } . وقد رويت أخبار هي أشد استفاضة ، وأصح طرقا من هذين الحديثين معارضة لهما ، منها حديث أنس وقبيصة بن المخارق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الصدقة لا تحل إلا في إحدى ثلاث فذكر إحداهن فقر مدقع ، وقال : أو رجل أصابته فاقة أو رجل أصابته جائحة ، ولم يشرط في شيء منها عدم القوة والعجز عن الاكتساب ، ومنها حديث سليمان أنه حمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة ، فقال لأصحابه : كلوا ولم يأكل ، ومعلوم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أقوياء مكتسبين ، ولم يخص النبي صلى الله عليه وسلم بها من كان منهم زمنا أو عاجزا عن [ ص: 334 ] الاكتساب . ومنها حديث عروة بن الزبير عن عبيد الله بن عدي بن الخيار أن رجلين من العرب حدثاه أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه من الصدقة ، فصعد فيهما البصر وصوبه فرآهما جلدين فقال : إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب فلما قال لهما : إن شئتما أعطيتكما ، ولو كان محرما ما أعطاهما مع ما ظهر له من جلدهما وقوتهما وأخبر . مع ذلك أنه لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب ، فدل على أنه أراد بذلك كراهة المسألة ، ومحبة النزاهة لمن كان معه ما يغنيه أو قدر على الكسب فيستغني به عنها ، وقد يطلق مثل هذا على وجه التغليظ لا على وجه تحقيق المعنى ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ليس بمؤمن من يبيت شبعانا وجاره جائع ، قال : لا دين لمن لا أمانة له ، وقال : ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان ، ولم يرد به نفي المسكنة عنه رأسا حتى تحرم عليه الصدقة ، وإنما أراد ليس حكمه كحكم الذي لا يسأل ، وكذلك قوله : ولا حق فيها لغني ، ولا لقوي مكتسب على معنى أنه ليس حقه فيها كحق الزمن العاجز عن الكسب ، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم فعم سائر الفقراء الزمنى منهم والأصحاء . وأيضا قد كانت الصدقات والزكاة تحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعطيها فقراء الصحابة من المهاجرين والأنصار وأهل الصفة ، وكانوا أقوياء مكتسبين ، ولم يكن يخص بها الزمنى دون الأصحاء ، وعلى هذا أمر الناس من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا يخرجون صدقاتهم إلى الفقراء الأقوياء والضعفاء منهم لا يعتبرون منها ذوي العاهات والزمانة دون الأقوياء الأصحاء ، ولو كانت الصدقة محرمة وغير جائزة على الأقوياء المكتسبين الفروض منها أو النوافل لكان من النبي صلى الله عليه وسلم توقيف للكافة عليه لعموم الحاجة إليه ، فلما لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم توقيف للكافة على حظر دفع الزكاة إلى الأقوياء من الفقراء والمتكسبين من أهل الحاجة ؛ لأنه لو كان منه توقيف للكافة لورد النقل به مستفيضا ، دل ذلك على جواز إعطائها الأقوياء المتكسبين من الفقراء كجواز إعطائها الزمنى والعاجزين عن الاكتساب .

التالي السابق


الخدمات العلمية