صفحة جزء
باب قتل المولى لعبده وقد اختلف في قتل المولى لعبده ، فقال قائلون ، وهم شواذ : يقتل به . وقال عامة الفقهاء : لا يقتل به . فمن قتله احتج بظاهر قوله تعالى : كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر على نحو ما احتججنا به في قتل الحر بالحر ، وقوله : النفس بالنفس وقوله : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه وقوله صلى الله عليه وسلم : المسلمون تتكافأ دماؤهم وقد روي حديث عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من قتل عبده قتلناه ، ومن جدع عبده جدعناه .

أما ظاهر الآي فلا حجة لهم فيها ؛ لأن الله تعالى إنما جعل القصاص فيها للمولى بقوله تعالى : ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا وولي العبد هو مولاه في حياته ، وبعد وفاته ؛ لأن العبد لا يملك شيئا ، وما يملكه فهو لمولاه لا من جهة الميراث لكن من جهة الملك ، فإذا كان هو الولي لم يثبت له القصاص على نفسه ، وليس هو بمنزلة من قتل وارثه فيجب عليه القصاص ، ولا يرثه ؛ لأن ما يحصل للوارث إنما ينتقل عن ملك المورث إليه ، والقاتل لا يرث فوجب عليه القصاص لغيره ، والعبد لا يملك شيئا فينتقل إلى مولاه ، ألا ترى أنه لو قتل ابن العبد لم يثبت له القصاص على قاتله ؛ لأنه لا يملك ؟ فكذلك لا يثبت له القصاص على غيره . ومتى وجب له القود على قاتله فإنما يستحقه مولاه دونه ، فلم يجز من أجل ذلك إيجاب القصاص على مولاه بقتله إياه . ويدل على أن العبد لا يثبت له ذلك قوله تعالى ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء فنفى بذلك ملك العبد نفيا عاما عن كل شيء ، فلم يجز أن يثبت له بذلك على أحد شيء .

وإذا لم يجز أن يثبت له ذلك لأجل أنه ملك لغيره ، والمولى [ ص: 170 ] إذا استحق ما يجب له فلا يجب له القود على نفسه ، وليس العبد في هذا كالحر ؛ لأن الحر يثبت له القصاص ثم من جهته ينتقل إلى وارثه ، ولذلك يستحقونه بينهم على قدر مواريثهم ، فمن حرم ميراثه بالقتل لم يرثه القود فكان القود لمن يرثه .

فإن قيل : ليس دم العبد في هذا الوجه كماله ؛ لأن المولى لا يملك قتله ، ولا الإقرار عليه بالقتل فهو بمنزلة الأجنبي فيه . قيل له : إن كان المولى لا يملك قتله ، ولا الإقرار عليه به ولكنه ولي ، وهو المستحق للقصاص على قاتله إذا كان أجنبيا ، من حيث كان مالكا لرقبته لا من جهة الميراث ، ألا ترى أنه المستحق للقود على قاتله دون أقربائه ؟ فدل ذلك على أنه يملك القود به كما يملك رقبته . فإذا كان هو القاتل لم يجز أن يستحق القود غيره عليه ، فاستحال من أجل ذلك وجوب القود له على نفسه .

وأيضا فقوله فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه لا يجوز أن يكون خطابا للمولى إذا كان هو المعتدي بقتل عبده ؛ لأنه وإن كان معتديا على نفسه بقتل عبده وإتلاف ملكه فغير جائز خطابه باستيفاء القود من نفسه وغير جائز أن يكون غيره مخاطبا باستيفاء القود منه ؛ لأنه غير معتد عليه ، والله تعالى إنما أوجب الحق لمن اعتدي عليه دون غيره .

فإن قال قائل : يقيد الإمام منه كما يقيد ممن قتل رجلا لا وارث له . قيل له : إنما يقوم الإمام بما ثبت من القود لكافة المسلمين إذا كانوا مستحقين لميراثه ، والعبد لا يورث فيثبت الحق في الاقتصاص من قاتله لكافة المسلمين ، ولا جائز أن يثبت ذلك للإمام ألا ترى أنه لو قتل العبد خطأ كان المولى هو المستحق لقيمته على قاتله دون سائر المسلمين ، ودون الإمام ، وأن الحر الذي لا وارث له لو قتل خطأ كانت ديته لبيت المال ؟ فكذلك القود لو ثبت على المولى لما استحقه الإمام ، ولكان المولى هو الذي يستحقه ، ويستحيل ثبوت ذلك له على نفسه فبطل .

وأما الحديث الذي روي فيه فهو معارض بضده ، وهو ما حدثنا ابن قانع قال : حدثنا المقبري قال : حدثنا خالد بن يزيد بن صفوان النوفلي قال : حدثنا ضمرة بن ربيعة ، عن ابن عباس ، وعن الأوزاعي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا قتل عبده متعمدا فجلده النبي صلى الله عليه وسلم ونفاه سنة ، ومحا سهمه من المسلمين ، ولم يقده به فنفى هذا الخبر ظاهر ما أثبته خبر سمرة بن جندب الذي احتجوا به ، مع موافقته لما ذكرنا من ظاهر الآي ومعانيها من إيجاب الله تعالى القود للمولى ، ومن نفيه لملك العبد بقوله لا يقدر على شيء ولو انفرد خبر سمرة عن معارضة الخبر الذي قدمناه لما جاز القطع به لاحتماله لغير ظاهره ، وهو [ ص: 171 ] أنه جائز أن يكون رجل أعتق عبده ثم قتله أو جدعه أو لم يقدم على ذلك ، ولكنه هدده به ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : من قتل عبده قتلناه يعني عبده المعتق الذي كان عبده .

وهذا الإطلاق شائع في اللغة والعادة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لبلال حين أذن قبل طلوع الفجر : ألا إن العبد نام ، وقد كان حرا في ذلك الوقت ، وقال علي عليه السلام : " ادعوا لي هذا العبد الأبظر " يعني شريحا حين قضى في ابني عم أحدهما أخ لأم بأن الميراث للأخ من الأم ؛ لأنه كان قد جرى عليه رق في الجاهلية فسماه بذلك ، وقال تعالى : وآتوا اليتامى أموالهم والمراد الذين كانوا يتامى . وقال صلى الله عليه وسلم : تستأمر اليتيمة في نفسها يعني التي كانت يتيمة . ولا يمتنع أن يكون مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : من قتل عبده قتلناه ما وصفناه فيمن كان عبدا فأعتق ، وزال بهذا توهم متوهم لو ظن أن مولى النعمة لا يقاد بمولاه الأسفل كما لا يقاد والد بولده . وقد كان جائزا أن يسبق إلى ظن بعض الناس أن لا يقاد به صلى الله عليه وسلم قد جعل حق مولى النعمة كحق الوالد ، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه فجعل عتقه لأبيه كفاء لحقه ومساويا ليده عنده ونعمته لديه ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية