صفحة جزء
قوله تعالى: فإن أرادا فصالا عن تراض منهما (233) [ ص: 190 ] يدل على الفطام قبل الحولين، وقد يدل على الفطام أيضا بعد الحولين، لأن الفاء للتعقيب، فوجب أن يكون الفصال الذي علقه بإرادتهما بعد الحولين.

وإذا ثبت ذلك، فتخصيص تحريم الرضاع بمدة الحولين، لا بد من تأصل مستنده، مع أن الليث بن سعد صار إلى أن إرضاع الكبير، يوجب تحريم الرضاع، وانفرد به من بين العلماء.

وروي عن عائشة مثل ذلك.

وكانت تروي في ذلك حديث سالم مولى أبي حذيفة أن النبي عليه السلام قال لسهلة بنت سهيل -وهي امرأة أبي حذيفة-:

"أرضعيه خمس رضعات ثم يدخل عليك" .

وتمام هذا الحديث، أن سهلة بنت سهيل قالت: "يا رسول الله إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم علي" ، فقال النبي عليه السلام: "أرضعيه" .

وقد روى مسروق في مقابلته عن عائشة، أن رسول الله دخل عليها وعندها رجل فقالت: يا رسول الله، إنه أخي من الرضاعة، فقال عليه السلام:

"انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة"
.

وهذا يقتضي اختصاص الرضاع بالحالة التي يسد اللبن مجاعته، ويكتفي في غذائه به. [ ص: 191 ] وقد روي عن أبي موسى أنه كان يرى رضاع الكبير، وروي عنه ما يدل على رجوعه، وهو ما روى أبو حصين عن أبي عطية قال: قدم رجل بامرأته إلى المدينة فوضعت وتورم ثديها، فجعل يمجه ويصبه، فدخل في بطنه جرعة منه، فسأل أبا موسى فقال: بانت منك وائت ابن مسعود فأخبره، ففعل، فأقبل بالأعرابي إلى الأشعري وقال: أرضيعا ترى هذا الأشمط؟

"إنما يحرم من الرضاع ما ينبت اللحم والعظم" ، فقال أبو موسى الأشعري: لا تسألوني ما دام هذا بين أظهركم.

وقوله: "لا تسألوني" يدل على أنه رجع عن ذلك.

وروى جابر عن رسول الله أنه قال: "لا يتم بعد حلم ولا رضاع بعد فصال" .

وفي حديث آخر: "الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم" .

فإذا ثبت أن رضاع الكبير لا يحرم، فالشافعي يقدر أثر الرضاع بالحولين.

وأبو حنيفة يزيد ستة أشهر، ويقول: ما يحرم بعد الحولين يحرم فطم أو لم يفطم، إلى ستة أشهر.

وقال زفر: ما دام يجتزي باللبن ولم يفطم فهو رضاع، وإن أتى عليه ثلاث سنين. [ ص: 192 ] وقال الأوزاعي: إذا فطم لسنة واستمر فطمه، فليس بعده رضاع.

فأما الشافعي فإنه يرى: كأن التقدير بستة أشهر، كالتقدير بسنة، والتقدير بشهر، وذلك تحكم لا مستند له، وهو مثل تقدير أبي حنيفة في بلوغ الغلام بثماني عشرة سنة، وقوله:

لا يدفع المال إلى الذي لم يؤنس رشده، إلا بعد خمس وعشرين سنة وكل ذلك تحكم.

ولا مستند في مثل ذلك إلا التوقيف، والتوقيف قوله تعالى:

والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة .

ونص على أن الحولين إتمام الرضاعة، ولفظ الإتمام يمنع إمكان الزيادة عليه في الحكم المتعلق بما قبل التمام.

نعم ، قد قال صلى الله عليه وسلم: "من أدرك عرفة فقد تم حجه" .

ومعناه: تمام الإدراك الذي لا يلحقه إمكان فوت.

وهذا المعنى متعلق بالوقوف، فإذا ظهر لنا هذا المستند، فالتقدير لستة أشهر بعده، لا وجه له.

وقد روى جابر أن النبي عليه السلام قال:

"لا رضاع بعد الحولين" .

وفي رواية: "لا رضاع بعد فصال" .

والأصل كتاب الله تعالى الدال على تمام الرضاع في الحولين.

وقوله تعالى: فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور يدل على فوائد، منها: [ ص: 193 ] جواز الاجتهاد في الأحكام، بإباحة الله تعالى للوالدين التشاور فيما يؤدي إلى صلاح أمر الصغير، وذلك موقوف على غالب ظنونهما، لا على الحقيقة واليقين.

وفيه دليل على أن الفطام في مدة الرضاع موقوف على تراضيهما، وأنه ليس لأحدهما أن يفطمه دون الآخر، لقوله: فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما .

وروي عن قتادة قال: كان الرضاع واجبا في الحولين، وكان يحرم الفطام قبله، ثم خفف وأبيح الرضاع أقل من هذه المدة، بقوله تعالى: فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما .

أن يفطما قبل الحولين وبعدهما..

التالي السابق


الخدمات العلمية