صفحة جزء
قوله تعالى: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه الآية (97) :

والاستطاعة وردت مطلقة، وفسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالزاد والراحلة، لا على معنى أن الاستطاعة مقصورة عليها، فإن المريض، والخائف، والشيخ الذي لا يثبت على الراحلة، والزمن، وكل من تعذر عليه الوصول، فهو غير مستطيع للسبيل إلى الحج، وإن كان واجدا للزاد والراحلة.

فدل أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "الاستطاعة الزاد والراحلة"، إبانة أن من أمكنه المشي إلى البيت ولم يجد زادا أو راحلة، لا يلزمه الحج، فبين النبي صلى الله عليه وسلم، أن لزوم فرض الحج مخصوص بالركوب دون المشي، وأن من لا يمكنه الوصول إليه إلا بالمشي الذي يشق عليه ويعسر، فلا حج عليه، وذلك تنبيه على أن كل من لا يصل إلى البيت إلا بمشقة شديدة، فقد سقط عنه الحج، وقد قال الله تعالى: وما جعل عليكم في الدين من حرج .

والمرأة لما كانت كلحم على وضم، وكان ما يتوق -من خروجها دون محرم ونسوة ثقات- من الضرر على نفسها، أعظم من ضرر المشي [ ص: 295 ] في حق القادر عليه، فعلم بسقوط فرض المشي لما فيه من المشقة، سقوط ما فوقه، وهذا بالغ حدا.

نعم هذا الذي قلناه من المنصوص عليه، ودلالته في سقوط الحج، لضرر يعود إلى من عليه الحج، مع أنه قد ورد في منع وجوب الحج على المرأة، وعلى الزمن الذي لا يستطيع ركوب الراحلة إلا بمشقة شديدة أخبار خاصة.

وقد يمتنع وجوب الحج لضرر يرجع إلى الغير، إلى الحاج، كأن يكون عليه دين، أو يكون أجيرا، والمرأة إذا أرادت حجة الإسلام وهي منكوحة.

والاستطاعة تنعدم بهذه الجهات والأسباب، إذا امتنعت الاستطاعة، لضرر يرجع إلى الماشي، فلأن تمتنع بحق الغير أولى، فإن الماشي إن تكلف المشقة ربح الثواب، وأما من له الحق فإنه يتضرر من غير نفع يحصل له في مقابلته، وذلك يدل على أن الأمر فيه أعظم.

مع أنه يمكن أن يذكر فيه معنى آخر، وهو أن الحج قد ثبت بالدليل أنه على التراخي، وهذه الحقوق على الفور، والحج لا يفوت، وهذه [ ص: 296 ] الحقوق تفوت، والحج حق الله، وهذه الحقوق للآدمي، فربما يجري فيها زيادة مضايقة لحاجة الآدمي، وليس الشروع في هذه المعاني من مقصودنا إنما مقصودنا: اقتباس هذه الأحكام من هذه الآية الواردة في معنى الاستطاعة.

وها هنا نوع آخر من الكلام، وهو أن الذين لا استطاعة لهم من المكلفين قسمان:

أحدهما: إذا تكلف المشقة وحج وقع عن فرض حجة الإسلام.

والآخر: إذا حج لم تقع عنه حجة الإسلام.

فالقسم الأول كالمرأة إذا سافرت دون محرم أو نسوة ثقات، أو تكلف الماشي المشي، أو المريض تكلف المشقة.

والقسم الآخر كالعبد يحج دون إذن مولاه، فإنه لا يقع عن حجة الإسلام، حتى إذا عتق وجبت حجة الإسلام.

مع أن القسمين على سواء في سقوط خطاب الأداء فيهما.

وقد خالف في العبد قوم من السلف، وحكى الرازي هذا المذهب عن الشافعي، وهو منه غلط، ولم يختلف قول الشافعي في هذا المعنى، ولا عن أصحابه وجه على ما رواه عنه الرازي.

والفارق بين القسمين: إن كان من وصل إلى البيت ولزمه الحج، كالفقير والمريض الذي سهل عليه ذلك العذر من العمل، أو بسقط صاحب الحق، مثل المديون والأجير والزوج، أو لصاحبة المحرم مثل [ ص: 297 ] المرأة، فيلزمهم الحج، فإذا حجوا بأنفسهم وقع الموقع، فإنه يعلم بوجوب الحج عليهم عند حضور البيت، أو رضا من له الحق أن امتناع الأداء عارض، وأن الوجوب لولا العارض ثابت، وإذا أدى الحج، فليس في منع الاعتداد به عن حجة الإسلام إضرار بالغريم، فلا حج عليه.

فدل أن المانع في الخطاب، وأن الخطاب قاصر عنه لنقص فيه، بالإضافة إلى الحج، فلا جرم لا يقع عن حجة الإسلام بحال.

فإن قال قائل: ولو وقع السؤال عن هذا وقيل: العبد إذا كان حاضرا في المسجد الحرام وأذن له السيد، فلم لا يلزمه الحج؟

قلنا هذا سؤال على الإجماع، وربما لا يعلل ذلك، ولكن إذا ثبت هذا الحكم بالإجماع، استدللنا به على أنه لا يعتد بحجه في حال الرق على حجة الإسلام، ولعل المعنى فيه: أن الرق ضرب على الكافر في الأصل، ولم يكن حج الكافر معتدا به، ولما ضرب عليه الرق، ضرب عليه ضربا مؤبدا، فلم يكن في حالة الكفر أهلا لأداء عبادة الحج، ولما ضرب الرق المؤبد عليه، تقاصر عنه الخطاب أبدا، فلم يدخل تحت خطاب الحج بوجه.

وأما الفقر فعارض لا يدوم، والمرض كمثل، وقد سبق الخطاب، وكذا المنكوحة، فهذا هو السبب فيه.

نعم ، العبد لا جمعة عليه، وإذا أداها سقط الفرض، لأن عليه الظهر، والجمعة قائمة مقامه، وليس عليه شيء يقوم الحج مقامه، وقد روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

"أيما صبي حج ثم أدرك، فعليه أن يحج حجة أخرى، وأيما أعرابي [ ص: 298 ] حج ثم هاجر، فعليه أن يحج حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم أعتق، فعليه أن يحج حجة أخرى".

وهذا إذا صح أغنى عن تكلف كل معنى.

وظاهر قوله: ولله على الناس حج البيت الاكتفاء بحجة واحدة.

التالي السابق


الخدمات العلمية