صفحة جزء
قوله تعالى: والمحصنات من النساء (24) :

الآية عطف على المحرمات.

ثم قال: إلا ما ملكت أيمانكم .

والمراد به أن ذوات الأزواج محرمات على غير الأزواج.

قوله: إلا ما ملكت أيمانكم ، في تأويل علي وابن عباس، في رواية وابن عمر، والآية في ذوات الأزواج من النساء، أبيح وطؤهن بملك اليمين، وحصلت الفرقة بالسبي، وورد ذلك في سباياأوطاس، وكان لهن أزواج في المشركين، فتحرج المسلمون من غشيانهن، وأنزل الله تعالى: والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ، أي هن لكم.

[ ص: 406 ] وتأوله ابن مسعود، وأبي بن كعب، وأنس بن مالك، وجابر وابن عباس في رواية عكرمة: أنه في جميع ذوات الأزواج من السبايا وغيرهن، وأنهن إذا ملكن حل وطؤهن، وكانوا يقولون: بيع السيد أمته المزوجة من أجنبي، موجب للفرقة بينها وبين زوجها.

وظن هؤلاء أن الآية عامة، ولا نظر إلى خصوص النسب، والصحيح أن ذلك مختص بالسبي الوارد على نكاح غير محترم، وأن تصرف الرجل في ملكه بالبيع، لا يبطل حقا لغيره على وجه اللزوم، إذا لم يكن بين إثباتهما تناقض، وليس نكاح المتزوج مانعا لملك اليمين، ولو كان مناقضا لم يجز ابتداء النكاح، فهذا سبب الاختصاص.

وإنما رفع الله نكاح الأزواج الحربيين، ليخلص الملك للمسلمين، وإنما يخلص الملك بانقطاع حق الزوج في المحل، وإنما ينقطع حق الزوج بسقوط حرمته، فهذا هو السبب وهو ظاهر.

وفيه سر آخر، وهو أن انقطاع نكاح الحربي لم يكن لإثبات الحل في حق السابي، ولكنه لتصفية الملك له، ولذلك لو كانت المسبية أخته من الرضاعة، أو كانت مجوسية، انقطع النكاح، فإنه لو لم ينقطع، لم يصف له الملك، ولم تنقطع الرحمة والعلقة، وكان الملك ناقصا، ولذلك تنقطع الإجارات والديون والعلق كلها، فهذا هو السبب فيه.

وأبو حنيفة لا يرى للسبي أثرا، ويقول: انقطاع النكاح باختلاف الدار، فإذا سبي الزوجان معا، لم ينقطع النكاح.

والذي ذكره بعيد من أوجه:

منها: أن المنقول في سبايا أوطاس أنهن كن ستة آلاف رجل وامرأة، فكيف يمكن أن يقال لم يكن فيهم امرأة معها زوجها، وأنه امتد الأمر حتى اختلفت الدار؟

[ ص: 407 ] والوجه الثاني: أن الله تعالى يقول: والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ، فأحال على ملك اليمين لا على اختلاف الدار، وجعل ملك اليمين هو المؤثر، فيتعلق به من حيث العموم والتعليل جميعا، إلا ما خصه الدليل.

وها هنا سؤال: وهو أنه يقال: قال: والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ، فإن كان النكاح قد ارتفع فليست محصنة.

قيل: المقصود بذلك رفع الحرج، بسبب أنها ذات زوج، وإبانة أنا لا نمسك بعصم الكوافر، وعلق الحربيين حتى لا يتحرج بذلك السبب، فمعناه: واللواتي كن ذوات الأزواج إذا سبيتموهن، فحكمه كذا.

وتمام البيان في ذلك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال في رواية أبي سعيد الخدري في سبايا أوطاس : "لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض"، ولم يجعل لفراش الزوج السابق أثرا، حتى يقال إن المسبية مملوكة، ولكنها كانت زوجة زال نكاحها، فتعتد عدة الإماء، إلا ما نقل عن الحسن بن صالح، فإنه قال:

عليها العدة حيضتان إذا كان لها زوج في دار الحرب.

وكافة العلماء رأوا استبراءها، واستبراء التي لا زوج لها واحدا في أن الجميع بحيضة.

فإذا ثبت ذلك، فذلك يدل على أنه عند السبي لم يعتبر عصمة الكافر وحرمته، حتى لم يجب عقدة النكاح أيضا، من حيث أن إيجاب عدة [ ص: 408 ] النكاح تعويق ينشأ من عصمة الكافر وحرمته، ولا حرمة لكافر حتى يتعوق بسببه حق المسلم في الملك.

ولو أن المرأة هاجرت إلى دار الإسلام، أو أسلمت وانفسخ النكاح، فإنما يوجب عدة النكاح، فدل أن جواز الوطء المجرد للاستبراء لمكان زوال النكاح لملك اليمين، لا باختلاف الدار، وهذا في غاية الظهور لأصحاب الشافعي رحمة الله عليهم وعليه.

قوله تعالى: وأحل لكم ما وراء ذلكم :

يحتمل ما وراء ذوات المحارم من أقاربكم، ويحتمل ما عدا المحرمات، وهو الأظهر.

قوله تعالى: أن تبتغوا بأموالكم .

خطاب للأزواج كلهم، فكأنه قال: تبتغون بأموالكم، فمقتضاه ابتغاء كل واحد بمال نفسه.

وظن بعض الجهال أن المراد بذلك، أن كل واحد منهم يصدقها ما يسمى أموالا، وظاهره يقتضي أكثر من العشرة، وحكاية هذا الكلام كافية في الرد على قائله، كيف وقد قال تعالى:

وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم ؟ وذلك يقتضي إيجاب نصف المفروض قليلا كان أو كثيرا.

قوله تعالى: أن تبتغوا بأموالكم .

يمنع كون عتق الأمة صداقا لها، خلافا لأحمد، لدلالة الآية على [ ص: 409 ] كون المهر مالا، وليس في العتق تسليم مال، وإنما فيه إسقاط الملك من غير أن استحقت به تسليم مال إليها، فإن الذي كان يملكه المولى من عبده، لم ينتقل إليها، وإنما يسقط.

فإذا لم يسلم الزوج إليها شيئا، ولم تستحق عليه شيئا، وإنما أتلف به ملكه فلم يكن مهرا، وهذا بين.

وقد جوز الشافعي رضي الله عنه جعل منفعة الحر صداقا، ولا خلاف في منفعة العبيد، وإنما يجعل صداقا، لأنها تستحق عليه تلك المنفعة وهي مال، ووردت فيه أخبار وهي نصوص، والشروع فيها خروج عن معاني القرآن، والذي ورد في الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية، وجعل عتقها صداقا، لا يعارض استدلالنا بالقرآن، لإمكان أنه كان مخصوصا له، فإن نكاحه جاز بلا مهر، فليس يعارض ذلك استدلالنا بلفظ هو نص في حق الأمة. وقال أيضا:

وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا .

وذلك يدل على أن العتق لا يكون صداقا من وجوه:

منها أنه قال تعالى: وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ، وذلك أمر يقتضي الإيجاب، وإعطاء العتق لا يصح.

والثاني قوله: فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ، وذلك محال في العتق، ومتصور في المنفعة.

قوله تعالى: محصنين غير مسافحين يحتمل وجهين:

[ ص: 410 ] أحدهما: الإحصان بعقد النكاح، فتقدير الكلام: اطلبوا منافع البضع بأموالكم على وجه النكاح، لا على وجه السفاح، فيكون للآية على هذا الوجه عموم.

ويحتمل أن يقال: محصنين أي الإحصان صفة لهن، ومعناه لتزوجوهن على شرط الإحصان فيهن.

وقد قال الشافعي رضي الله عنه: الإحصان مجمل يتردد بين معان جمة، فيفتقر إلى البيان.

والوجه الأول أولى، لأنه متى أمكن جري الآية على عمومها والتعلق بمقتضاها فهو أولى، ولأن مقتضى الوجه الثاني أن المسافحات لا يحل التزوج بهن، وذلك خلاف الإجماع.

ويدل عليه أيضا، أن الله تعالى ذكر نظيره في الإحصان في حق الإماء فقال:

وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان .

ثم قال: فإذا أحصن ، معناه فإذا تزوجن.

وقال: وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات .

فتقدير الكلام على هذا: وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم غير زنا، وهذا كلام ظاهر المعنى، ومقتضاه: إطلاق لفظ الإباحة، على وجه التعميم، وفيه إخبار عن كونها محصنة.

والإحصان في الأصل هو المنع، فقد يطلق على العقد، لأن صاحبه [ ص: 411 ] يمنع نفسه من الحرام، ويطلق على الإسلام.

قال الله تعالى: فإذا أحصن ، روي في بعض الأخبار: إذا أسلمن، وإن كان له معنى آخر ذكرناه.

وقال تعالى: والمحصنات من النساء : ذوات الأزواج، وسميت محصنة لأن النكاح يحصنها من السفاح.

وفي الخبر: من تزوج فقد حصن ثلثي دينه.

وتقول الفقهاء: الإحصان معتبر في الرجم.

ويقولون: هو معتبر في حد القاذف، وتختلف معانيهما والأحكام المعتبرة فيهما.

وسمي الزنا سفاحا لأنه سفح الماء وهو صبه، يقال: سفح دمه، وسفح الجبل أسفله، لأنه موضع مصب الماء، وسافح الرجل إذا زنى، لأنه صب ماءه من غير أن يلحقه حكم مائه في ثبوت النسب، ووجوب العدة وسائر أحكام النكاح.

ويسمى الزاني مسافحا، لأنه ليس يتعلق به حكم ثابت مستمر، وهو نسب أو عدة أو مهر، ويفهم من ذلك أن لا نسب ولا فراش، ولأجل ذلك لم يثبت الشافعي رضي الله عنه التحريم والعتق في المخلوقة من ماء الزنا، واقتضى ذلك أيضا أن لا يثبت في حقها النسب، لأنها مسافحة، كما أنه مسافح، ولكن انفصال الولد منها محسوس، فلا يمكن تضييع حق الولد مع أن فيه خلافا لبعض أهل العلم، أخذا بلفظ المسافحة، [ ص: 412 ] وتحقيق الفرق بين جانبه وجانبها في النسب، ذكرناه على الاستقصاء في مجموعاتنا في الخلاف.

قوله تعالى: فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة .

ذكر الله تعالى ذلك بعد قوله تعالى: أن تبتغوا بأموالكم ، وذلك يقتضي بيان حكم الدخول في النكاح المذكور أولا، وأنه لا يجوز حط شيء، وحبس قدر ما من المهر، بأي سبب طارئ.

ولو لم يقدر ذلك، لم يفهم من قوله تعالى: فما استمتعتم به منهن معنى بوجه ما، فإن الله تعالى أمر بابتغاء البضع بالأموال قبل الاستمتاع، فذكر الاستمتاع ينبغي أن يكون سببا لأمر ما، وليس هو إلا تقدير الصداق المذكور أولا، حتى لا يتوهم سقوط شيء منه لعارض.

وظن ظانون أن هذه الآية وردت في نكاح المتعة، وأن المهر فيه يتعلق بالدخول لا بنفس العقد ولا ميراث فيه.

ونقل عن ابن عباس أنه تأول قوله: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن .

وروي عنه أنه رجع عن ذلك لأخبار كثيرة وردت في النهي عن متعة النساء، وتحريم لحوم الحمر الأهلية، ومن رواة الحديث علي.

وروي عن ابن عباس أنه قال: نسخه قوله تعالى: إذا طلقتم النساء ، وأشار به إلى أنه لا نكاح إلا له طلاق، وإلا له عدة، وإلا فيه ميراث، والله تعالى يقول:

[ ص: 413 ] والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم .

والذي ذكره هؤلاء في معنى قوله تعالى: فما استمتعتم به منهن الآية، لا يحتمل ما ذكره هذا القائل الذي حمله على نكاح المتعة ، فإن الأجر بمعنى المهر، قال تعالى:

ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن .

فلما ذكر النكاح علم أنه أراد به الصداق.

وقال تعالى: وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات .

فدل على أن محصنات ومحصنين عنى به التزويج، لأن محصنات ذكر مع النكاح، لقوله تعالى: فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات .

[ ص: 414 ] قوله تعالى: ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة .

معناه جواز الإبراء عن بعض الصداق أو هبة بعضه، وتقدير الكلام:

أن تبتغوا بأموالكم محصنين -أي متزوجين- بهن، فإذا استمتعتم بهن فآتوهن أجورهن، ولا تنقصوا شيئا، وإن جرى فراق أو سبب، إلا أن تكون قد حطت شيئا من الصداق، فالحق لها، والمحطوط لا يجب توفيره عليها إذا استمتع.

واستدل قوم بذلك على جواز الزيادة، وذلك غلط، فإن الآية ما وردت في موضع الزيادة، فإنه لما قال تعالى: فآتوهن أجورهن فريضة ، اقتضى جواز إعطاء ما فرض لها أولا، فقوله: ولا جناح عليكم يرجع إلى الرخصة في ترك الإيتاء، بعد الأمر بالإيتاء في غير موضع الرخصة، وهذا بين لا شك فيه.

فإن قيل: فقد قال تعالى: فيما تراضيتم ، والإبراء لا يتوقف على تراضيهما.

الجواب: أن الإبراء وإن كان على المذهب الصحيح، لا يتوقف على تراضيهما، فالهبة موقوفة على ذلك، والإبراء في أحد الوجهين لأصحابنا وإن لم يقف، فالمعلوم العرف أن ذلك يجري بتراضيهما، والمقصود بقوله: فآتوهن أجورهن ، طيبة قلبها، وأن لا ينقص من أجرها شيئا والإبراء يصدر منها.

وقال: فآتوهن أجورهن ، إلا إذا طابت نفسها، وقد صرح بذلك في موضع آخر فقال: وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن [ ص: 415 ] طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا .

فهذا المشكل من هذه الآية، يعرف من المبين المحكم في الآية الأخرى.

ويدل عليه أن الله تعالى يقول:

وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم .

فجعل عند الطلاق شطر المفروض، وإذا تبين ذلك، فهذا الذي زيد، إن كان صداقا كان مفروضا، فإذا طلقها وقد فرض لها، فيجب أن يشطر ذلك، فإن الله حكم بتشطير نصف المفروض.

التالي السابق


الخدمات العلمية