صفحة جزء
قوله تعالى: وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة الآية (102) .

[ ص: 490 ] مذهب الشافعي رضي الله عنه في صلاة الخوف، أن العدو إذا كان في غير وجه القبلة، جعل الإمام القوم صفين، وصلى بطائفة ركعة، وطائفة وجاه العدو، فإذا سجد سجدوا معه، وإذا قام قاموا معه ونووا مفارقته، وأتموا الصلاة لأنفسهم، وأطال الإمام القيام حتى تحضر الطائفة الأخرى بعد انصراف الطائفة الأولى إلى وجاه، وصلى الإمام بالطائفة الأخرى ركعة وتشهد وسلم، وقضى القوم بقية صلاتهم.

وإن كان العدو في جهة القبلة، أحرم بهم جميعا وحرسه صف وسجد مع القيام صف، وباقي الصلاة على ما تقدم.

والفرق بين كون العدو في جهة القبلة، وكونه في جهة أخرى، أن العدو إذا كان في غير جهة القبلة، فإنما يحرم بطائفة واحدة، وإذا كانوا في جهة واحدة أحرم بهم.

وللناس اختلافات كثيرة في صلاة الخوف، وأبو حنيفة من بينهم يقول: يركع الإمام بقوم ويسجد وينصرفون وهم في الصلاة، ويجيء القوم الآخرون فيصلي بهم ركعة ثم ينصرفون ويجيء الأولون فيقضون بقية صلاتهم.

فأثبتوا ترددات كثيرة في الصلاة من غير حاجة، والله تعالى يقول:

وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم الآية (102) .

فظن أن السجود يجري على حقيقته.

[ ص: 491 ] ولكن لما لم يقل إنهم ينصرفون كرة أخرى، حمل الشافعي قوله: فإذا سجدتم يعني فإذا صليتم، فالذي ذكره الشافعي رضي الله عنه، ليس فيه إلا أن المأموم يقطع نية القدوة، وذلك ليس نية بعد.

وعلى ما قاله أبو حنيفة تجري ترددات في خلال الصلاة، وهي خارقة نظام الصلاة من غير حاجة، ومعلوم أن قطع نية القدوة أمثل من احتمال ترددات لا لحاجة في خلال الصلاة.

وأبو حنيفة قد قال في الذي سبقه الحدث، إنه يتردد وصلاته صحيحة، وذلك أيضا خلاف الأصول، فلا جرم قال أبو يوسف: الذي كان من ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف، لا يجوز مثله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنما كان مختصا به لئلا يفوت الناس الجماعة معه، لأنه رأى أشياء تخرم نظام الصلاة، فأما نحن، فلا يحتمل ما يخالف نظام الصلاة، وإنما قصارى ما يفعله المأموم قطع نية القدوة فقط، وذلك غير ممنوع شرعا.

وإذا كان الخوف أشد من ذلك، وكان التحام القتال، فإن المسلمين يصلون على ما أماكنهم مستقبلي القبلة ومستدبريها، وأبو حنيفة وأصحابه الثلاثة متفقون على أنهم لا يصلون والحالة هذه، بل يؤخرون الصلاة، وإن قاتلوا في الصلاة قالوا فدت الصلاة.

وحكي عن الشافعي رضي الله عنه: إن تابع الطعن والضرب فسدت صلاته.

وليس في القرآن تعرض لذلك على الخصوص، وإنما فيه:

[ ص: 492 ] "فلا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة".

وهم يحملون ذلك على قصر الأوصاف، وقصر الأوصاف عند الخوف، يشتمل على حالة التحام القتال.

نعم، صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، صلى صلاة الخوف في مواضع، على اختلاف في الصفات، ولم يصل يوم الخندق أربع صلوات حتى مضى هوي من الليل ثم قال:

"ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى ".

فقضاهن على الترتيب، ولم يكن مشتغلا بالقتال حالة الحفر، ولا كان الكفار ثم، وإنما كانوا يستعدون لهم، والدليل على أنه لم يجر قتال إلا مناوشة في طرف مع بعضهم، قوله تعالى:

وكفى الله المؤمنين القتال .

وذلك يدل على أنه لم يجر قتال، فعلم أن ذلك كان مخصوصا منسوخا، ويعلم ضرورة أن الأفعال في القتال، مثل الأفعال من المشي والحركات ثم الجيئة والذهاب في خلال صلاة الخوف عندهم لا تنافي صحة الصلاة على ما هو مذهبهم، فالقتال من أي وجه كان منافيا.

قوله تعالى: ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم الآية (102) .

فيه إباحة وضع السلاح، لما فيه من المشقة اللاصقة به في حمل السلاح [ ص: 493 ] في حالة المرض والوحل والطين، فيجوز أن يؤخذ منه أن من توحل ووقع في الطين وضاق عليه وقت الصلاة، فيجوز له أن يصلي بالإيماء، كما يجوز له في حالة المرض إذا لم يمكنه السجود; لأن الله تعالى سوى بين المرض والمطر.

التالي السابق


الخدمات العلمية