صفحة جزء
ولما نسبوه أولا إلى الضلال وهو قد يكون خطأ عن ذهول ونحوه ، فأقام لهم الدليل على أنه على الصواب - أخبر أنه لم يتسبب عن ذلك إلا تصريحهم بما لوحوا إليه أولا بالضلال من التكذيب فقال : فكذبوه أي : الملأ وتبعهم من دونهم; ولما تسبب عن تكذيبهم له تصديق الله لهم بإهلاكهم وإنجائه ومن آمن به ، قال مقدما لإنجائه اهتماما به : فأنجيناه بما لنا من العظمة من أهل الأرض كلهم ومن عذابنا الذي أخذناهم به : والذين معه أي : بصحبة الأعمال الدينية في الفلك وهو السفينة التي من الله على الناس بتعليمه عملها لتقيه من الطوفان فكانت آية ومنفعة عظيمة لمن أتى بعدهم وأغرقنا أي : بالطوفان ، وهو الماء الذي طبق ظهر الأرض فلم يبق منها موضعا حتى أحاط به ، وأظهر موضع الإضمار تعليقا للفعل بالوصف إشارة إلى أن من فعل مع الرسول شيئا فإنما فعله مع مرسله فهو يجازيه بما يستحقه ، فقال : الذين كذبوا بآياتنا أي : وهي من الظهور في حد لا خفاء به لما لها من العظمة بالنسبة إلينا ، وعدي هنا فعل النجاة بالهمزة وهي الأصل في التعدية ، وقرنت بـ : " الذين " لأنه أخلص الموصولات وأصرحها. [ ص: 432 ] ولما أعيدت القصة في سورة يونس - عليه السلام - كان الأليق بكلام البلغاء والأشبه بطرائق الفصحاء التفنن في العبارة ، فعدي التضعيف مع ما فيه من الأبلغية بإفهام مزيد الاعتناء مناسبة لما تقدم من مزيد التفويض في قوله : فأجمعوا أمركم وشركاءكم وتلا بـ : " من " ضما للفرع إلى الفرع فإن " من " مشترك بين الوصل والشرط ، وهي أيضا قد تطلق على ما لا يعقل ، فناسب ذلك الحال ، وزيد هناك في وصف الناجين وجعلناهم خلائف نظرا إلى قوله تعالى في في أول السورة : ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا ثم قال : ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون فلوح لهم بالإهلاك إن ظلموا ، ثم أشار لهم - في قصة نوح - عليه السلام - بكونه أعلمهم أن الخلائف هم الناجون الباقي ذكرهم وذريتهم - إلى أنه تفضل عليهم بالتوفيق إلى الإجابة ورحمهم بهذا النبي الكريم - عليه أفضل الصلاة والتسليم - فقضى أنهم غير مهلكين .

ولما افتتحت القصة بنسبتهم له إلى الضلال باطلا ، وهو ناشئ عن عمى البصيرة أو البصر ، ناسب أن يقلب الأمر عليهم على وجه الحق ، فقال مؤكدا لإنكارهم ذلك إنهم كانوا أي : لما جبلتهم من العوج [ ص: 433 ] قوما عمين أي : مطبوعين في عمى القلب مع قوتهم فيما يحاولونه ، ثابت لهم ذلك ، بما أشار إليه فعل دون أن يقال فاعل ، وختمت القصة في يونس بقوله

فانظر كيف كان عاقبة المنذرين لقوله أولها إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري أي : إنذاري لأنه أعلم أنه كبر عليهم ولو كان تبشيرا لما عز عليهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية