صفحة جزء
ولما انقضت هذه القصص فأسفرت عن أن أكثر الخلق هالك، صرح بذلك فقال مقسما لأنه لا يكاد يصدق أن الإنسان يكون - أضل من البهائم، عاطفا على ما تقديره: هؤلاء الذين قصصنا عليكم أخباركم ذرأناهم لجهنم: ولقد وعزتنا وجلالنا ذرأنا أي: خلقنا بعظمتنا وأنشأنا وبثثنا ونشرنا لجهنم كثيرا أي: وألجأناهم [ ص: 173 ] إليها ولم يجعل بينهم وبينها حائلا.

ولما كانوا يعظمون الجن ويخافونهم ويضلون بهم، بدأ بهم فقال: من الجن أي: بنصبهم أنفسهم آلهة بإضلالهم الإنس في تزيين عبادتهم غير الله، فهم في الحقيقة المعبودون لا الحجارة، ونحوها: والإنس أي: بعبادتهم لمن لا يصلح، وعلم أن الآية صالحة لأن تكون معطوفة على الجملة التي قبلها فهي من فذلكة ما تقدم.

ولما كان كأنه قيل: ما لهم رضوا لأنفسهم بطريق جهنم؟ قيل: لهم ولما كان السياق للتفكر، بدأ بالقلوب فقال: قلوب لا يفقهون بها أي: الفقه الذي كلفوا به، وهو النظر في أدلة التوحيد وثبوت النبوة وما تفرع عن ذلك، وهو الفقه المسعد، عد غيره عدما لأنه لم ينفعهم النفع المقصود في الحقيقة، وما أحسن التعبير بالفقه في السياق إقامة الأدلة التي منها إرسال الرسل وإنزال الكتب.

ولما كان البصر أعم من السمع؛ لأنه ينتفع به الصغير الذي لا يفهم القول، وكذا كل من في حكمه، قدمه فقال: ولهم أعين ولما لم يترتب عليهما الإبصار النافع في الآخرة الباقية، نفى إبصارهم وإن كانوا أحد الناس إبصارا فقال: لا يبصرون بها أي: الآيات المرئية إبصار تفكر واعتبار ولهم آذان ولما لم يترتب على سمعها ما ينفعهم، نفاه على نحو ما مضى فقال: لا يسمعون بها أي: الآيات المسموعة وما [ ص: 174 ] يدل عليها سماع ادكار وافتكار، ولما سلبت عنهم هذه المعاني كانت النتيجة: أولئك أي: البعداء من المعاني الإنسانية كالأنعام أي: في عدم الفقه، ولما كانوا قد زادوا على ذلك تفقد نفع السمع والبصر قال: بل هم أضل لأنهم إما معاند وإما جاهل بما يضره وينفعه، والأنعام تهرب إذا سمعت صوتا منكرا فرأت بعينها أنه يترتب عليه ضرها، وتنتظر ما ينفعها من الماء والمرعى فتقصده، والأنعام لا قدرة لها على ما يترتب على هذه المدارك من الفقه. وهؤلاء مع قدرتهم على ذلك أهملوه [فنزلوا عن رتبتها درجة كما أن من طلب الكمال وسعى له سعيه مع نزاع الشهوات علا عن درجة الملائكة بما قاسى من الجهاد].

ولما تشاركوا الأنعام بهذه في الغفلة وزادوا عليها، أنتج ذلك قطعا على طريق الحصر: أولئك أي: البعداء البغضاء هم أي: خاصة الغافلون لا الأنعام، فإنها - وإن كانت غافلة عما يراد بها - غير خالدة في العذاب، فلم تشاركهم في العمى والصمم عما ينفعها ولا في الغفلة عن الخسارة الدائمة، فقد أشارت الآية إلى تفضيل الإنسان على الملك كما اقتضته سورة الزيتون؛ لأنه جعل في خلقه وسطا بين الملك الذي هو عقل صرف والحيوان الذي هو شهوة مجردة، فإن غلب عقله كان أعلى بما عالجه من جهاد الشهوات فكان في: أحسن تقويم وإن غلبت شهوته كان أسفل من الحيوان بما أضاع من عقله فكان أسفل سافلين

التالي السابق


الخدمات العلمية