صفحة جزء
ولما بين تعالى أن دأبهم استعجالهم بالخير، وكان منه استكشاف الضر، بين أن حالهم عنده الاعتراف، وشكرهم على النجاة منه الإنكار [فدأبهم الطغيان والعمه]، وذلك في غاية المنافاة لما يدعونه من رجاحة العقول وأصالة الآراء وسلامة الطباع، فالحاصل أن الإنسان عند البلاء غير صابر، وعند الرجاء غير شاكر ، فكأنه قيل: فإذا مس الإنسان منهم الخير كان في غفلة بالفرح والأشر والمرح وإذا مس الإنسان منهم الضر [وإن كان من جهة يتوقعها لطغيان هو فيه ولا ينزع عنه خوفا مما يتوقعه من حلول الضر لشدة طغيانه وجهله] دعانا مخلصا معترفا بحقنا عالما بما لنا من كمال العظمة عاملا بذلك معرضا عما ادعاه شريكا لنا كائنا لجنبه أي مضطجعا حال إرادته للراحة، وكأنه عبر باللام إشارة إلى أن ذلك أسر أحواله إليه أو قاعدا أي متوسطا [في أحواله] أو قائما أي في غاية السعي في [ ص: 84 ] مهماته، لا يشغله عن ذلك شيء في حال من الأحوال، [بل يكون ظرف المس بالضر ظرف الدعاء بالكشف]، ويجوز أن يكون عبر بالأحوال الثلاثة عن مراتب الضر، وقال: لجنبه إشارة إلى استحكام الضر وغلبته بحيث لا يستطيع جلوسا كما يقال: فلان لما به، وأشار بالفاء إلى قرب زمن الكشف فقال: فلما كشفنا أي بما لنا من العظمة عنه ضره [أي] الذي دعانا لأجله مر أي: في كل ما يريده لاهيا عنا بكل اعتبار كأن أي كأنه لم يدعنا أي على ما كان يعترف به وقت الدعاء من عظمتنا; ولما كان المدعو يأتي إلى الداعي فيعمل ما دعاه لأجله قال: إلى أي كشف ضر مسه أي كأن لم يكن له بنا معرفة أصلا فضلا عن أن يعترف بأنا نحن كشفنا عنه ضره، فهذه الآية في بيان ضعف الإنسان وسوء عبوديته، والتي قبلها في بيان قدرة الله وحسن ربوبيته; والمس: لقاء من غير فصل; والدعاء: طلب الفعل من القادر عليه; والضر: إيجاب الألم بفعله أو السبب المؤدي إليه.

ولما كان هذا من فعل الإنسان من أعجب العجب. كان كأنه قيل: لم يفعل ذلك؟ فقيل: لما يزين له من الأمور التي يقع بها الاستدراج لإسرافه. وهذا دأبنا أبدا كذلك أي مثل هذا التزيين العظيم الرتبة; ولما كان الضار مطلق التزيين، بنى للمفعول قوله: زين للمسرفين [ ص: 85 ] أي كلهم العريقين في هذا الوصف ما كانوا أي بجبلاتهم يعملون أي: يقبلون عليه على سبيل التجديد والاستمرار من المعصية بالكفر وغيره مع ظهور فساده ووضوح ضرره; والإسراف: الإكثار من الخروج عن العدل.

التالي السابق


الخدمات العلمية