صفحة جزء
ولما ثبت أن ذلك كله حق مباين للسحر الذي مبناه على التخييل، أقبل على الذين تقدم الإخبار عنهم في أول السورة في قوله: أكان للناس عجبا أنهم قالوا إنه سحر، فقال: يا أيها الناس أي الذين قالوا: إن وعدنا والإخبار به سحر; ولما كان بين الأرواح والأبدان حب غريزي بالتعلق، والتذ الروح لذلك بمشتهيات هذه الحياة الدنيا بما انطبع فيه بمظاهر الحس فلم يأته نور العقل حتى تعود النقائص بقوة التعلق [ ص: 144 ] فحدثت له أخلاق ذميمة هي أمراض روحانية، فأرسل ربه الذي أوجده ودبره وأحسن إليه طبيبا حاذقا هو الرسول صلى الله عليه وسلم لعلاج هذه الأمراض. وأنزل كتابه العزيز لوصف الأدوية، فكان أحكم الطب منع المريض عن أسباب المرض، قال تعالى: قد جاءتكم موعظة أي: زاجر عظيم عن التخلي عن كل ما يشغل القلب عن الله من المحظورات وغيرها من كل ما لا ينبغي، وذلك هو الشريعة.

ولما كان تناول المؤذي شديد الخطر، وهو لذيذ إلى النفس لما بينهما من ملاءمة النقص، وكان الانكفاف عنه أشق شيء عليها، رغبها في القبول بقوله: من ربكم أي المحسن إليكم المدبر لمصالحكم بهذا القرآن; ولما كان أليق ما يعمل بعد الحمية تعاطي الدواء المزيل للأخلاط الفاسدة من الباطن، قال: وشفاء أي: عظيم جدا لما في الصدور من أدواء الجهل، وذلك الشفاء يحصل بتطهير الباطن بعد التخلي عن الأخلاق الذميمة بالتحلي بالصفات الحميدة ليصير الباطن سالما عن العقائد الفاسدة والأخلاق الناقصة كما سلم البدن من الأفعال الدنية، وهذا هو الطريق.

ولما كانت الروح إذا انصقلت مرآتها فصارت قابلة لتجلي الأنوار عليها [بفيض] البروق الإلهية والنفحات القدسية والمواهب الملكوتية لأنها دائمة اللمعان كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني عن محمد بن مسلمة رضي الله عنه: « إن لربكم في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا له » الحديث. [ ص: 145 ] وليس المانع من نزولها في كل قلب إلا عدم القابلية من بعضها لتراكم الظلمات فيها من صداء المخالفة ودين الإعراض والغفلة، فيكون بذلك كالمرايا الصديئة لا تقبل انطباع الصور بها، قال تعالى: وهدى إلى الحق لأنه نور عظيم يقود صاحبه – ولا بد - إلى الطريق الأقوم، وهذا للصديقين وهو الحقيقة.

ولما كان هذا النور إذا زاد عظمة وانتشر إشراقه يفيض - بعد الوصول إلى هذه الدرجات الروحانية والمعارج الربانية - على أرواح الناقصين فيض النور من جوهر الشمس على أجرام العالم فينير كل قابل له مقبل عليه، قال تعالى: ورحمة أي: إكرام عظيم بالإمامية بالغ في الكمال والإشراق إلى حد لا مزيد عليه، وهذا للأنبياء عليهم السلام; ولما كان لا ينتفع بأنوارهم إلا من توجه إليهم، ثم إن الانتفاع بهم \ يتفاوت بتفاوت درجات التوجه إليهم والإقبال عليهم، قال: للمؤمنين الذين اتبعوه وهم راسخون في التوجه إلى المرشدين والاستسلام [لهم] فكان ذلك سببا لنجاتهم - أشار إلى هذا الإمام وقال: فهذه درجات عقلية ومراتب برهانية مدلول عليها بهذه الكلمات الأربع القرآنية على وجه لا يمكن تأخير شيء منها عن موضعه ولا تقديمه، وهذا بخلاف ما نسبوه إليه [صلى الله عليه وسلم] من السحر فإنه داء كله وضلال يجر إلى الشقاء. والموعظة: إبانة تدعو إلى الصلاح بطريق الرغبة والرهبة، [ ص: 146 ] والوعظ: ما دعا إلى الخشوع والنسك وصرف عن الفسوق والإثم; والشفاء: إزالة الداء، وداء الجهل أضر من داء البدن وعلاجه أعسر وأطباؤه أقل، والشفاء منه أجل; والصدر: موضع القلب، وهو أجل موضع في الحي لشرف القلب; والهدى: بيان عن معنى يؤدي إلى الحق، وهو دلالة تؤدي إلى المعرفة; والرحمة: نعمة على المحتاج.

التالي السابق


الخدمات العلمية