صفحة جزء
ولما كان أكثر المجادلة لما عنده من الشفقة على عباد الله لما له [ ص: 334 ] من هذه الصفات الجليلة، أعلمه الله أن الأمر قد ختم بقوله حكاية أن الرسل قالت له بعد طول المجادلة منادين بالأداة التي هي أم الباب إعلاما بأن ما بعدها عظيم الشأن عالي المنزلة: يا إبراهيم أعرض أي: بكليتك عن هذا أي السؤال في نجاتهم; ثم علل ذلك بقوله مؤكدا لأنه بمجادلته في حيز من ينكر بت الأمر: إنه قد افتتحه بحرف التوقع لأنه موضعه جاء أمر ربك أي الذي عودك بإحسانه الجم، فلولا أنه حتم الأمر بعذابهم لأمهلهم لأجلك، ولذا عطف على العلة قوله مؤكدا إعلاما بأنه أمر قد انبرم ومضى: وإنهم آتيهم أي: إتيانا ثابتا عذاب غير مردود أي: بوجه من الوجوه من أحد كائنا من كان; الإعراض: الانصراف، وحقيقته الذهاب عن الشيء في جهة العرض; والرد: إذهاب الشيء إلى ما جاء منه كالرجع; والدفع أعم؛ لأنه قد يكون إلى جهة القدام; فلما علم مراد الله تعالى فيهم، قدمه على مراده ولم ينطق بعده ببنت شفة.

ذكر هذه القصة من التوراة: قال في السفر الأول: واستعلن الله لإبراهيم في مرج - وفي نسخة: بين بلوط ممرى الأموراني - وكان جالسا على باب خيمته إذ اشتد النهار، فرفع عينيه فنظر فإذا هو بثلاثة رجال وقوف على رأسه، فلما رآهم أحضر إليهم من باب الخيمة [ ص: 335 ] وسجد على الأرض وقال: يا رب - وفي نسخة: يا ولي الله - إن كان لي عندك مودة فلا تبعد عن عبدك حتى آتي بما أغسل به أرجلكم، واتكئوا تحت الشجرة وأصيبوا شيئا من الطعام تقرون به أنفسكم، ثم حينئذ تجوزون لأنكم مررتم بعبدكم بغتة فقالوا له: اصنع كما قلت، فاستعجل إبراهيم فأحضر إلى الخيمة إلى سارة وقال: عجلي بثلاثة آصع من درمك - وفي نسخة: دقيق سميد - فاعجنيه واخبزي منه مليلا، وسعى إلى قطيع البقر فأخذ عجلا سمينا شابا فدفعه إلى الغلام وأمر بتعجيل صنعته وأخذ سمنا ولبنا والعجل الذي \ صنع له أيضا فقربه إليهم، وكان هو واقفا بين أيديهم تحت الشجرة وقالوا له: أين سارة امرأتك؟ فقال: في الخيمة، فقال له: إني أرجع إليك في مثل هذا الحين من قابل وهي في الحياة ولها منك ابن، فسمعت سارة وهي على باب الخيمة مستترة وكان هو خلفها، وكان إبراهيم وسارة قد شاخا وقدم سنهما وانقطع عن سارة سبيل النساء، فضحكت سارة في قلبها وقالت: أمن بعد ما بليت أرجع شابة وسيدي قد شاخ؟ فقال الله لإبراهيم : لم ضحكت سارة وقالت: أنى لي بالولد وقد شخت؟ أيعسر هذا على الله؟ إني أرجع إليك في [مثل] هذا الحين من قابل وهي حية ولها ابن، فجحدت سارة وقالت: كلا ما ضحكت، لأنها فزعت، فقال: كلا! ولكنك قد ضحكت، ثم قام [ ص: 336 ] الرجال وتعمدوا طريق سدوم وعامورا ، وانطلق معهم إبراهيم ليشيعهم. وقال الله: أأكتم عبدي إبراهيم شيئا مما أصنع؟ وإبراهيم يكون رئيسا لشعب عظيم كبير، وتتبارك به شعوب الأرض، لأني عالم أنه يوصي بنيه وأهل بيته من بعده أن يحفظوا طرق الرب ليعملوا بالبر والعدل، لأن الرب يكمل لإبراهيم جميع ما وعده به. فقال الرب [ لإبراهيم ]: لقد وصل إلي حديث سدوم وعامورا وقد كثرت خطاياهم جدا، ثم ولى القوم ومضوا إلى سدوم ، وكان إبراهيم بعد واقفا قدام الرب، [فدنا إبراهيم ] وقال: يا رب! تهلك الأبرار مع الفجار بغضب واحد؟ إن كان في القرية خمسون بارا أتهلكهم بغضب واحد؟ حاشاك يا رب أن تصنع هذا الصنيع وتهلك البريء مع السقيم، ويكون البريء بحال السقيم، حاشا لك يا حاكم الأرض كلها! لا يكون هذا من صنيعك! فقال الرب: إن وجدت بسدوم خمسين بارا في القرية عفوت عن جميع البلد من أجلهم، فأجاب إبراهيم وقال: إني قد بدأت بالكلام بين يدي الرب، وإنما أنا تراب ورماد، فإن نقص من الخمسين بارا خمسة تخرب القرية كلها من أجل الخمسة؟ فقال: لا أخربها إن وجدت بها خمسة وأربعين بارا، فعاد إبراهيم وقال له: فإن وجد فيها أربعون؟ [ ص: 337 ] فقال: لا أخربها إن وجدت فيها أربعين، فقال: لا يمكن الرب كلامي فأتكلم، فإن كان هناك ثلاثون؟ فقال: لا أخربها إن وجدت فيها ثلاثين، فقال: إني قد أمعنت في الكلام بين يدي الرب، فإن وجد بها عشرون؟ فقال: لا أخربها من أجل العشرين، فقال: لا نشقن على الرب، فأتكلم هذه المرة يا رب فقط، فإن وجد بها عشرة رهط؟ فقال: لا أفسدها من أجل العشرة; فارتفع استعلان الرب عن إبراهيم لما فرغ إبراهيم من كلامه ورجع إبراهيم إلى موضعه - انتهى. وقد مضى أمر حبل سارة وولادها في البقرة.

التالي السابق


الخدمات العلمية