صفحة جزء
ولما أردف البيان لأوصاف المؤمنين التعريف بأحوال الكافرين ، وكانوا قد انقسموا على مصارحين ومنافقين ، وكان المنافقون قسمين : جهالا من مشركي العرب ، وعلماء من كفار بني إسرائيل ؛ كان الأنسب - ليفرغ من قسم برأسه على عجل - البداءة أولا بالمصارحين ، فذكر ما أراد من أمرهم في آيتين ، لأن أمرهم أهون ، وشأنهم أيسر لقصدهم بما يوهنهم بالكلام أو بالسيف على أن ذكرهم على وجه يعم جميع الأقسام فقال [ ص: 92 ] مخاطبا لأعظم المنعم عليهم على وجه التسلية والإعجاز في معرض الجواب لسؤال من كأنه قال : هذا حال الكتاب للمؤمنين ، فما حاله للكافرين ؟ إن الذين كفروا أي حكم بكفرهم دائما حكما نفذ ومضى فستروا ما أقيم من الأدلة على الوحدانية عن العقول التي هيئت لإدراكه والفطر الأولى التي خلصت عن مانع يعوقها عن الانقياد له وداموا على ذلك بما دل عليه السباق بالتعبير عن أضدادهم بما يدل على تجديد الإيمان [ ص: 93 ] على الدوام ، واللحاق بالختم والعذاب ، ولعله عبر بالماضي - والموضع للوصف - تنفيرا من مجرد إيقاع الكفر ولو للنعمة وليشمل المنافقين وغيرهم .

ولما دل هذا الحال على أنهم عملوا ضد ما عمله المؤمنون من الانقياد ؛ كان المعنى سواء عليهم أأنذرتهم أي إنذارك في هذا الوقت بهذا الكتاب أم لم تنذرهم أي وعدم إنذارك فيه وبعده وقد انسلخ عن أم والهمزة معنى الاستفهام ، قال سيبويه : جرى هذا على [ ص: 94 ] حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء في قولك : اللهم اغفر لنا أيتها العصابة . انتهى . ولعله عبر بصورة الاستفهام وقد سلخت عن معناه إفهاما لأنهم توغلوا في الكفر توغل من وصل في الحمق إلى أنه لو شاهد الملك يستفهمك عنه ما آمن .

ولما كان كأنه قيل : في أي شيء استوت حالتاهم ؟ قيل : في أنهم لا يؤمنون وهي دليل على خصوص كونه هدى للمتقين وعلى وقوع التكليف بالممتنع لغيره فإنه سبحانه كلفهم الإيمان وأراد منهم الكفران ، فصار ممتنعا لإرادته عدم وقوعه ، والتكليف به جار على سنن الحكمة ، فإن إرادة عدم إيمانهم لم تخرج إيمانهم عن حيز الممكن فيما يظهر ، لعدم العلم بما أراد الله من كل شخص بعينه ، فهو على سنن الابتلاء ليظهر في عالم الشهادة المطيع من غيره لإقامة الحجة ؛ ويأتي في الصافات عند افعل ما تؤمر تتمة لهذا .

[ ص: 95 ] قال الحرالي : فحصل بمجموع قوله : سواء عليهم إلى آخره ، وبقوله : لا يؤمنون خبر تام عن سابقة أمرهم ولاحقة كونهم ، فتم بالكلامين الخبر عنهم خبرا واحدا ملتئما كتبا سابقا وكونا لاحقا . انتهى . وكل موضع ذكر فيه الكفر فإنما عبر به إشارة إلى أن الأدلة الأصلية في الوضوح بحيث لا تخفى على أحد ، ولا يخالفها إلا من ستر مرآة عقله إما عنادا وإما بإهمال النظر السديد والركون إلى نوع تقليد .

التالي السابق


الخدمات العلمية