صفحة جزء
وتولى أي انصرف بوجهه عنهم لما تفاقم عليه من الحزن، وبلغ به من الجهد، وهاج [به] [ ص: 196 ] باجتماع حزن إلى حزن من الحرق [كراهية] لما جاءوا به وإقبالا على من إليه الأمر وقال مشتكيا إلى الله لا غيره، فهو تعريض بأشد التصريح والدعاء: يا أسفى أي يا أشد حزني، والألف بدل عن ياء الإضافة لتدل على بلوغ الأسف إلى ما لا حد له، وجناس "الأسف" مع " يوسف " مما لم يتعمد، فيكون مطبوعا، فيصل إلى نهاية الإبداع، وأمثاله في القرآن كثير على يوسف هذا أوانك الذي ملأني بك فنادمني كما أنادمك /، وخصه لأنه قاعدة إخوانه، انبنى عليها وتفرع منها ما بعدها وابيضت عيناه أي انقلب سوادهما إلى حال البياض كثرة الاستعبار، فعمى البصر من الحزن الذي هو سبب البكاء الدائم الذي هو سبب البياض، فذكر السبب الأول، يقال: بلغ حزنه عليه السلام حزن سبعين ثكلى وما ساء ظنه قط.

ثم علل ذلك بقوله: فهو أي بسبب الحزن كظيم أي شديد الكظم لامتلائه من الكرب، مانع نفسه من عمل ما يقتضيه ذلك من الرعونات بما آتاه الله من العلم والحكمة، وذلك أشد ما يكون على النفس وأقوى ما يكون للحزن، فهو فعيل "بمعنى مفعول"، وهو [ ص: 197 ] أبلغ منه، من كظم السقاء - إذا شده على ملئه.

ومادة "كظم" تدور على المنع من الإظهار، يلزمه الكرب - لأنه من شأن الممنوع مما قد امتلأ منه، ويلزمه الامتلاء، لأن ما دونه ليس فيه قوة الظهور، كظم غيظه -إذا سكت بعد امتلائه منه، وكظمت السقاء - إذا ملأته وسددته، وكظم البعير جرته - إذا ردها وكف، والكظم: مخرج النفس، لأنه به يمنع من الجري في هواه; والكظامة: حبل يشد به خرطوم البعير، لمنعه مما يريد، وأيضا يوصل بوتر القوس العربية ثم يدار بطرف السية العليا، منعا له من الانحلال وأيضا قناة في باطن الأرض يجري فيهما الماء، لأنه يمنع الماء من أن يأخذ في هواه فيرتفع في موضع النبع فيظهر على وجه الأرض، وخرق يجري فيه الماء من بئر إلى بئر، لأنه لا يصنع إلا عند ضعف إحدى البئرين، فلولاه لفاضت القوية، فهو تصريف لمائها في غير وجهه، وكظامة الميزان: المسمار الذي يدور فيه اللسان، لأنه يربطه فيمنعه [ ص: 198 ] من الانفكاك، ويقال: ما زلت كاظما يومي كله، أي ممسكا عن الأكل وقد امتلأت جوعا، وقد يطلق على مطلق المنبع، [ومنه] كاظمة - لقرية على شاطئ البحر، لأن البحر قد كظمها عن الانفساح وكذا هي منعته عن الانسياح.

التالي السابق


الخدمات العلمية