صفحة جزء
ولما كان سامع هذا الكلام يشتد تشوفه إلى جوابه، وكان أصل الدعوة في كل ملة التوحيد، وكان الشاك فيه شاكا في الله، وكان أمر الله من الظهور بحيث لا يشك فيه عاقل حكم عقله مجردا عن الهوى، ساغ الإنكار وإيراد الكلام على تقدير سؤال معرى من التقييد مبهم في قوله: قالت رسلهم ولما كان ما شكوا فيه من الظهور بحيث لا يتطرق إليه ريب، أنكروا أن يكون فيه شك، لأن ذلك يتضمن إنكار شكهم وشك غيرهم فقالوا: أفي الله أي الذي له جميع صفات الكمال شك

ولما كان الجواب عاما لا يخص ناسا دون ناس، لم يأت بصلة [ ص: 392 ] فقال بخلاف قوله: إن نحن إلا بشر ثم نبهوهم بالمصنوع على مقصود الدعوة من وجود الصانع وتفرده وظهوره في قولهم: فاطر السماوات ولما كان المقام لادعاء [أنه] في غاية الظهور، لم يحتج [إلى تأكيد] بإعادة العامل، فقال: والأرض أي على هذا المثال البديع والنمط الغريب المنتظم الأحوال، الجميل العوائد، والمتسق الفصول; فلما أوضحوا لهم الأدلة على وحدانيته بينوا لهم بأن ثمرة الدعوة خاصة بهم، إنه لا يأباها من [له] أدنى بصيرة، فقالوا: يدعوكم أي على ألسنتنا ليغفر لكم

ولما كان الكافر إنما يدعى أولا إلى الإيمان، وكان الإيمان إنما يجب ما كان قبله من الذنوب التي معهم بينهم وبينه دون المظالم، قال: من ذنوبكم ولو عم بالغفران لأفهم ذلك أنهم لا يدعون بعد الإيمان إلى عمل أصلا "و" لا يفعل بكم فعل من تعهدون من الملوك في المعاجلة بالإهلاك لمن خالفهم، بل " يؤخركم " وإن أخطأتم أو تعمدتم وتبتم إلى أجل مسمى عنده سبق علمه به، وهو آجالكم على حسب التفريق، ولا يستأصلكم بالعذاب في [ ص: 393 ] آن واحد كما فعل بمن ذكر من الأمم.

فلما بين لهم الأصيل بدليله فروع عليه ما لا ريب فيه في قصر نفعه عليهم، علموا أنه لا يتهيأ لهم عن ذلك جواب فأعرضوا عنه إلى [أن] "قالوا"عنادا "إن" أي ما أنتم أي أيها الرسل إلا بشر وأكدوا ما أرادوا من نفي الاختصاص فقالوا: "مثلنا" يريدون: فما وجه تخصيصكم بالرسالة دوننا؟ [ثم] كان كأنه قيل: فكان ماذا؟ فقالوا: تريدون أن تصدونا أي تلفتونا وتصرفونا عما كان أي كونا هو كالجبلة، وأكدوا هذا المعنى للتذكير بالحال الماضية بالمضارع فقالوا: يعبد آباؤنا أي أنكم - لكونكم من البشر الذين يقع بينهم التحاسد - حسدتمونا على اتباع [الآباء] وقصدتم تركنا [له] لنكون لكم تبعا فأتونا أي فتسبب - عن كوننا لم نر لكم فضلا وإبدائنا من إرادتكم ما يصلح أن يكون مانعا - أن نقول لكم: ائتونا لنتبعكم بسلطان مبين أي حجة واضحة تلجئنا إلى تصديقكم مما نقترحه عليكم، وهذا تعنت محض فإنهم جديرون [ ص: 394 ] بأن يعرضوا عن كل سلطان يأتونهم به كائنا ما كان كما ألغوا ما أتوا هم به من البينات فلم يعتدوا [به]،

التالي السابق


الخدمات العلمية