صفحة جزء
ولما أخبرهم سبحانه وتعالى بإيجاب القتال عليهم مرسلا في جميع الأوقات وكان قد أمرهم فيما مضى بقتلهم حيث ثقفوهم ثم قيد عليهم في القتال في المسجد الحرام كان بحيث يسأل هنا: هل [ ص: 225 ] الأمر في الحرم والحرام كما مضى أم لا؟ وكان المشركون قد نسبوهم في سرية عبد الله بن جحش التي قتلوا فيها من المشركين عمرو بن الحضرمي إلى التعدي بالقتال في الشهر الحرام واشتد تعييرهم لهم به فكان موضع السؤال: هل سألوا عما عيرهم به الكفار من ذلك؟ فقال مخبرا عن سؤالهم مبينا لحالهم: يسألونك أي أهل الإسلام لا سيما أهل سرية عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنهم عن [ ص: 223 ] الشهر الحرام فلم يعين الشهر وهو رجب ليكون أعم، وسميت الحرم لتعظيم حرمتها حتى حرموا القتال فيها، فأبهم المراد من السؤال ليكون للنفس إليه التفات ثم بينه ببدل الاشتمال في قوله: قتال فيه ثم أمر بالجواب في قوله: قل قتال فيه أي قتال كان فالمسوغ العموم.

ولما كان مطلق القتال فيه في زعمهم لا يجوز حتى ولا لمستحق القتل وكان في الواقع القتال عدوانا فيه أكبر منه في غيره قال: كبير أي في الجملة.

ولما كان من المعلوم أن المؤمنين في غاية السعي في تسهيل سبيل الله فليسوا من الصد عنه ولا من الكفر في شيء لم يشكل أن ما بعده كلام مبتدأ هو للكفار وهو قوله: وصد أي صد كان عن سبيل الله الملك الذي له الأمر كله أي الذي هو دينه الموصل إليه أي إلى رضوانه، أو البيت الحرام فإن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الحج سبيل الله.

قال الحرالي : والصد صرف إلى ناحية بإعراض وتكره، والسبيل طريق الجادة السابلة عليه الظاهر لكل سالك [ ص: 227 ] منهجه وكفر به أي كفر كان، أي بالدين، أو بذلك الصد أي بسببه فإنه كفر إلى كفرهم، وحذف الخبر لدلالة ما بعده عليه دلالة بينة لمن أمعن النظر وهو أكبر أي من القتال في الشهر الحرام، والتقييد فيما يأتي بقوله: عند الله يدل على ما فهمته من أن المراد بقوله: كبير في زعمهم وفي الجملة لا أنه من الكبائر.

ولما كان في تقدم الإذن بالقتال في الشهر الحرام وفي المسجد الحرام بشرط كما مضى كان مما يوجب السؤال عن القتال فيه في الجملة بدون ذلك الشرط أو بغيره توقعا للإطلاق لا سيما والسرية التي كانت سببا لنزول هذه الآية وهي سرية عبد الله بن جحش كان الكلام فيها كما رواه ابن إسحاق عن الأمرين كليهما فإنه قال: إنهم لقوا الكفار الذين قتلوا منهم وأسروا وأخذوا عيرهم في آخر يوم من رجب فهابوهم فلطفوا لهم حتى سكنوا فتشاوروا في أمرهم وقالوا: لئن تركتموهم [ ص: 228 ] هذه الليلة ليدخلن الحرم ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام، فترددوا ثم شجعوا أنفسهم ففعلوا ما فعلوا فعيرهم المشركون بذلك فاشتد تعييرهم لهم واشتد قلق الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين لا سيما أهل السرية من ذلك ولا شك أنهم أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بكل ذلك فإخبارهم له على هذه الصورة كاف في عدة سؤالاتهم فضلا عن دلالة ما مضى على التشوف إلى السؤال عنه لما كان ذلك قال تعالى: والمسجد أي ويسألونك عن المسجد الحرام أي الحرم الذي هو للصلاة والعبادة بالخضوع لا لغير ذلك قتال فيه قل قتال فيه كبير عندكم على نحو ما مضى ثم ابتدأ قائلا: وإخراج كما ابتدأ قوله: وصد عن سبيل الله وقال: أهله أي المسجد الذي كتبه الله لهم في القدم وهم أولى الناس به منه أكبر أي من القتال في الشهر الحرام خطأ وبناء على الظن والقتل فيه عند الله أي المحيط بكل شيء قدرة وعلما [ ص: 229 ] فقد حذف من كل جملة ما دل عليه ما ثبت في الأخرى فهو من وادي الاحتباك، وسر ما صنع في هذا الموضع من الاحتباك أنه لما كان القتال في الشهر الحرام قد وقع من المسلمين حين هذا السؤال في سرية عبد الله بن جحش أبرز السؤال عنه والجواب، ولما كان القتال في المسجد الحرام لم يقع بعد وسيقع من المسلمين أيضا عام الفتح طواه وأضمره، ولما كان الصد عن سبيل الله الذي هو البيت والكفر الواقع بسببه لم يقع وسيقع من الكفار عام الحديبية أخفى خبره وقدره، ولما كان الإخراج قد وقع منهم ذكر خبره وأظهره; فأظهر سبحانه وتعالى ما أبرزه على يد الحدثان، وأضمر ما أضمره في صدر الزمان، وصرح بما صرح به لسان الواقع، ولوح إلى ما لوح إليه صارم الفتح القاطع - والله الهادي.

والمراد بالمسجد الحرام الحرم كله، قال الماوردي من أصحابنا: كل موضع ذكر الله فيه المسجد الحرام فالمراد به الحرم إلا قوله تعالى: فول وجهك شطر المسجد الحرام فإن المراد به الكعبة - نقله عن ابن الملقن .

وقال غيره: إنه يطلق أيضا على نفس مكة مثل سبحان الذي أسرى بعبده ليلا [ ص: 227 ] من المسجد الحرام فإن في بعض طرق البخاري : فرج سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم ثم جاء بطست - إلى أن قال: ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء ويطلق أيضا على نفس المسجد نحو قوله تعالى: ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد

ولما كان كل ما تقدم من أمر الكفار فتنة كان كأنه قيل: أكبر، لأن ذلك فتنة والفتنة أي بالكفر والتكفير بالصد والإخراج وسائر أنواع الأذى التي ترتكبونها بأهل الله في الحرم والأشهر الحرم أكبر من القتل ولو كان في الشهر الحرام لأن همه يزول وغمها يطول.

ولما كان التقدير: وقد فتنوكم وقاتلوكم وكان الله سبحانه وتعالى عالما بأنهم إن تراخوا في قتالهم ليتركوا الكفر لم يتراخوا هم في قتالهم [ ص: 231 ] ليتركوا الإسلام وكان أشد الأعداء من إذا تركته لم يتركك قال تعالى عاطفا على ما قدرته: ولا يزالون أي الكفار يقاتلونكم أي يجددون قتالكم كلما لاحت لهم فرصة.

ولما كان قتالهم إنما هو لتبديل الدين الحق بالباطل علله تعالى بقوله: حتى ولكنهم لما كانوا يقدرون أنه هين عليهم لقلة المسلمين وضعفهم تصوروه غاية لا بد من انتهائهم إليها، فدل على ذلك بالتعبير بأداة الغاية، يردوكم أي كافة ما بقي منكم واحد عن دينكم الحق، ونبه على أن حتى تعليلية بقوله مخوفا من التواني عنهم فيستحكم كيدهم ملهبا للأخذ في الجد في حربهم وإن كان يشعر بأنهم لا يستطيعون: إن استطاعوا أي إلى ذلك سبيلا، [ ص: 232 ] فأنتم أحق بأن لا تزالوا كذلك، لأنكم قاطعون بأنكم على الحق وأنكم منصورون وأنهم على الباطل وهم مخذولون; ولا بد وإن طال المدى لاعتمادكم على الله واعتمادهم على قوتهم، ومن وكل إلى نفسه ضاع; فالأمر الذي بينكم وبينهم أشد من الكلام فينبغي الاستعداد له بعدته والتأهب له بأهبته فضلا عن أن يلتفت إلى التأثر بكلامهم الذي توحيه إليهم الشياطين طعنا في الدين وصدا عن السبيل وشبههم التي أضلوا عليهم دينهم ولا أصل لها، وفي الآية إشارة إلى ما وقع من الردة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فإن القتال على الدين لم ينقض إلا بعد الفروغ من أمرهم.

قال الحرالي : الاستطاعة مطاوعة النفس في العمل وإعطاؤها الانقياد فيه، ثم قال: فيه إشعار بأن طائفة ترتد عن دينها وطائفة تثبت، لأن كلام الله لا يخرج في بته واشتراطه إلا لمعنى واقع لنحو ما ويوضحه تصريح الخطاب في قوله: ومن يرتدد إلى آخره; وهو من الردة ومنه الردة وهو كف بكره لما شأنه الإقبال بوفق - انتهى.

وكان صيغة الافتعال المؤذنة بالتكلف والعلاج إشارة إلى أن الدين لا يرجع عنه إلا بإكراه النفس لما في مفارقة الإلف من الألم; وإجماع القراء على الفك هنا للإشارة إلى أن الحبوط [ ص: 233 ] مشروط بالكفر ظاهرا باللسان وباطنا بالقلب فهو مليح بالعفو عن نطق اللسان مع طمأنينة القلب، وأشارت قراءة الإدغام في المائدة إلى أن الصبر أرفع درجة من الإجابة باللسان وإن كان القلب مطمئنا.

ولما حماهم سبحانه وتعالى بإضافة الدين إليهم بأنهم يريدون سلبهم ما اختاروه لأنفسهم لحقيته وردهم قهرا إلى ما رغبوا عنه لبطلانه خوفهم من التراخي عنهم حتى يصلوا إلى ذلك فقال: ومن يرتدد منكم أي يفعل ما يقصدونه من الردة عن دينه وعطف على الشرط قوله: فيمت أي فيتعقب ردته أنه يموت وهو أي [ ص: 234 ] والحال أنه كافر

ولما أفرد الضمير على اللفظ نصا على كل فرد فرد جمع لأن إخزاء الجمع إخزاء لكل فرد منهم ولا عكس، وقرنه بفاء السبب إعلاما بأن سوء أعمالهم هو السبب في وبالهم فقال: فأولئك البعداء البغضاء حبطت أعمالهم أي بطلت معانيها وبقيت صورها; من حبط الجرح إذا برأ ونفي أثره.

وقال الحرالي : من الحبط وهو فساد في الشيء الصالح يأتي عليه من وجه يظن به صلاحه وهو في الأعمال بمنزلة البطح في الشيء القائم الذي يقعده عن قيامه كذلك الحبط في الشيء الصالح يفسده عن وهم صلاحه في الدنيا بزوال ما فيها من روح الأنس بالله سبحانه وتعالى ولطيف الوصلة به وسقوط إضافتها إليهم إلا مقرونة ببيان حبوطها فقط بطل ما كان لها من الإقبال من الحق [ ص: 235 ] والتعظيم من الخلق والآخرة بإبطال ما كان يستحق عليها من الثواب بصادق الوعد.

ولما كانت الردة أقبح أنواع الكفر كرر المناداة بالبعد على أهلها فقال: وأولئك أصحاب النار فدل بالصحبة على أنهم أحق الناس بها فهم غير منفكين منها.

ولما كانوا كذلك كانوا كأنهم المختصون بها دون غيرهم لبلوغ ما لهم فيها من السفول إلى حد لا يوازيه غيره فتكون لذلك اللحظ لهم بالأيام من غيرهم فقال تقريرا للجملة التي قبلها: هم فيها خالدون أي مقيمون إقامة لا آخر لها، وهذا الشرط ملوح إلى ما وقع بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم من الردة لأن الله سبحانه وتعالى إذا ساق شيئا مساق الشرط اقتضى أنه سيقع شيء منه فيكون المعنى: ومن يرتد فيتب عن ردته يتب الله عليه كما وقع لأكثرهم، وكان التعبير بما قد يفيد الاختصاص إشارة إلى أن عذاب غيرهم [ ص: 236 ] عدم بالنسبة إلى عذابهم لأن كفرهم أفحش أنواع الكفر.

التالي السابق


الخدمات العلمية