صفحة جزء
ولما حد سبحانه وتعالى هذه المدة لمنعهن عن الرجال بين أن التعريض بالخطبة ليس داخلا في المنع فقال: ولا جناح عليكم أي إثم يميل فيما عرضتم به أي قلتموه وأنتم تقصدون ما هو بعيد عنه كأنه في جانب وهو في جانب آخر لا يتأدى إليه إلا بدورة كأنت جميلة أو نافعة، وأنا عازم على أن أتزوج، وعسى أن ييسر الله لي قرينة صالحة .

وقال الحرالي : من التعريض وهو تفعيل من [ ص: 345 ] العرض والعرض وهو إلقاء القول عرضا أي ناحية على غير قصد إليه وصمد نحوه - انتهى. والفرق بينه وبين الكناية أنه كلام ظاهر في معنى يقصد به غير معناه الظاهر فلا يفهم المراد إلا بالقرائن، كقول المحتاج: جئت لأسلم عليك وأنظر وجهك الكريم، ويسمى التلويح أيضا، والكناية ذكر اللازم وإرادة الملزوم، وقد أفهم نوط الحل بالتعريض تحريم التصريح المقابل له وللكناية، والصريح اسم لما هو ظاهر المراد عند السامع بحيث يسبق إلى فهمه المراد ولا يسبق غيره عند الإطلاق من خطبة وهي الخطاب في قصد التزوج.

وقال الحرالي : هي هيئة الحال فيما بين الخاطب والمخطوبة التي النطق عنها هو الخطبة بالضم النساء المتوفى عنهن أزواجهن ومن أشبههن في طلاق بائن بالثلاث أو غيرها.

[ ص: 346 ] ولما أحل له التعريض وكان قد يعزم على التصريح إذا حل له ذلك نفى عنه الحرج فيه بقوله أو أكننتم أي أضمرتم في أنفسكم من تصريح وغيره سواء كان من شهوات النفس أو لا.

قال الحرالي : من الكن - بالفتح - وهو الذي من معناه الكن - بالكسر - وهو ما وارى بحيث لا يوصل به إلى شيء.

ولما كان لله سبحانه وتعالى بهذه الأمة عناية عظيمة في التخفيف عنها أعلمها بذلك بقوله على سبيل التعليل: علم الله أي بما له من صفات الكمال أنكم ستذكرونهن أي في العدة فأذن لكم في ذلك على ما حد لكم.

قال الحرالي : ففيه إجراء الشرعة على الحيلة الخاص [ ص: 347 ] بهذه الأمة انتهى.

ولما كان التقدير: فاذكروهن، استثنى منه قوله: ولكن لا تواعدوهن أي في ذكركم إياهن سرا ولما كان السر يطلق على ما أسر بالفعل وما هو أهل أن يسر به وإن جهر بين أن المراد الثاني وهو السر بالقوة فقال: إلا أن تقولوا أي في الذكر لهن قولا معروفا لا يستحيي منه عند أحد من الناس، فآل الأمر إلى أن المعنى لا تواعدوهن إلا ما لا يستحيي من ذكره فيسر وهو التعريض; فنصت هذه الآية على تحريم التصريح بعد إفهام الآية الأولى لذلك اهتماما به لما للنفس من الداعية إليه.

ولما كانت عدة الوفاة طويلة فكان حبس النفس فيها عن النكاح شديدا وكانت إباحة التعريض قريبة من الرتع حول الحمى وكان من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه خصها باتباعها النهي عن العقد قبل الانقضاء حملا على التحري ومنعا من التجري فقال: ولا تعزموا أي تبتوا أي تفعلوا فعلا بتا مقطوعا به غير متردد فيه [ ص: 348 ] عقدة النكاح أي النكاح الذي يصير معقودا للمعتدة عدة هي فيها بائن فضمن العزم البتة ولذلك أسقط "على" وأوقعه على العقدة التي هي من آثاره ولا تتحقق بدونه فكأنه قال: ولا تعزموا على النكاح باقين عقدته، وهو أبلغ مما لو قيل: ولا تعقدوا النكاح، فإن النهي عن العزم الذي هو سبب العقد نهي عن العقد بطريق الأولى.

قال الحرالي : والعقدة توثيق جمع الطرفين المفترقين بحيث يشق حلها [ ص: 349 ] وهو معنى دون الكتب الذي هو وصلة وخرز حتى يبلغ الكتاب أي الذي تقدم فيما أنزلت عليكم منه بيان عدة من زالت عصمتها من رجل بوفاة أو طلاق، أو ما كتب وفرض من العدة أجله أي أخر مدته التي ضربها للعدة.

ولما أباح سبحانه وتعالى التعريض وحظر عزم العقدة وغلظ الأمر بتعليقه بالكتاب وبقي بين الطرفين أمور كانت الشهوة في مثلها غالبة والهوى مميلا غلظ سبحانه وتعالى الزواجر لتقاوم تلك الدواعي فتولى تلك الأمور تهديد قوله تعالى: واعلموا أي أيها الراغبون في شيء من ذلك أن الله وله جميع الكمال يعلم ما في أنفسكم كله فاحذروه ولا تعزموا على شر فإنه يلزم من إحاطة العلم إحاطة القدرة.

ولما هددهم بعلمه وكان ذلك النهاية في التهديد وكان كل أحد يعلم من نفسه في النقائص ما يجل عن الوصف أخبرهم بما أوجب الإمهال على ذلك من منه بغفرانه وحلمه حثا على التوبة وإقامة بين الرجاء والهيبة فقال: واعلموا أن الله أي كما اقتضى جلاله العقوبة [ ص: 350 ] اقتضى جماله العفو فهو لذلك غفور أي ستور لذنوب الخطائين إن تابوا حليم لا يعاجل أحد العقوبة فبادروا بالتوبة رجاء غفرانه ولا تغتروا بإمهاله فإن غضب الحليم لكونه بعد طول الأناة لا يطاق، ويجوز أن يكون التقدير: ولا تصرحوا للنساء المعتدات بعقدة النكاح في عدة من العدد; والسر في تفاوتها أن عدة الوفاة طولت مراعاة للورثة إلى حد هو أقصى دال على براءة الرحم، لأن الماء يكون فيه أربعين يوما نطفة ومثلها علقة ومثلها مضغة ثم ينفخ فيه الروح فتلك أربعة أشهر، وقد تنقص الأشهر أربعة أيام فزيدت عليها وجبرت بما أتم أقرب العقود إليها; وفي صحيح مسلم رضي الله تعالى عنه تقدير المدة الأولى باثنين وأربعين يوما وفي رواية: خمس وأربعين وفي رواية: بضع وأربعين فإذا حمل البضع على ست وزيد [ ص: 351 ] ما قد تنقصه الأشهر صارت أربعة أشهر وعشرا; ولم تزد على ذلك مراعاة للمرأة لما قيل: إنه يقل صبر النساء بعد ذلك، واقتصر في الاستبراء على قرء وهو أقل دال على براءة الرحم لأن السيد يكون مخالطا للأمة غالبا فيشق الصبر، وثلثت عدة الحرة جريا على سنة الشارع في الاستظهار بالتثليث مع زوال علة الإسراع من المخالطة، ولأن أكثر الطلاق رجعي فربما كان عن غيظ فمدت ليزول فيتروى، وكانت عدة الأمة من الطلاق بين الاستبراء وعدة الحرة لما تنازعها من حق السيد المقتضي للقصر وحق الزوج المقتضي للطول مع عدم إمكان التصنيف - والله سبحانه وتعالى أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية