صفحة جزء
لما ختمت طه بإنذارهم بأنهم سيعلمون الشقي والسعيد، وكان هذا العلم تارة يكون في الدنيا بكشف الحجاب بالإيمان، وتارة بمعاينة ظهور الدين وتارة بإحلال العذاب بإزهاق الروح بقتل أو غيره، وتارة ببعثها يوم الدين، افتتحت هذه بأجلى ذلك وهو اليوم الذي [ ص: 379 ] يتم فيه كشف الغطاء فينتقل فيه الخبر من علم اليقين إلى عين اليقين وحق اليقين وهو يوم الحساب، فقال تعالى: اقترب للناس أي عامة أنتم وغيركم حسابهم أي في يوم القيامة; وأشار بصيغة الافتعال إلى مزيد القرب لأنه لا أمة بعد هذه ينتظر أمرها، وأخر الفاعل تهويلا لتذهب النفس في تعيينه كل مذهب، ويصح أن يراد بالحساب الجزاء، فيكون ذلك تهديدا بيوم بدر والفتح ونحوهما، ويكون المراد بالناس حينئذ قريشا أو جميع العرب، والحساب: إحصاء الشيء والمجازاة عليه بخير أو شر وهم أي الحال أنهم من أجل ما في جبلاتهم من النوس، وهو الاضطراب الموجب لعدم الثبات على حالة الأمن، أنقذه الله منهم من هذا النقص وهم قليل جدا في غفلة فهي تعليل لآخر تلك على ما تراه، لأنهم إذا نشروا علموا، وإذا أبادتهم الوقائع علموا هم بالموت، ومن بقي منهم بالذل المزيل لشماخة الكبر، أهل الحق من [أهل -] الباطل، وقوله: معرضون كالتعليل للغفلة، أي أحاطت بهم الغفلة بسبب إعراضهم عما يأتيهم منا، وسيأتي ما [يؤيد -] هذا في قوله آخرها بل كنا ظالمين وإلا فالعقول قاضية بأنه لا بد من جزاء المحسن والمسيء.

وقال الإمام أبو جعفر [بن -] الزبير في برهانه: لما تقدم قوله [ ص: 380 ] سبحانه لا تمدن عينيك - إلى قوله - فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى قال تعالى اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون أي لا تمدن عينيك إلى ذلك فإني جعلته فتنة لمن ناله بغير حق، ونسأل عن قليل ذلك وكثيره ثم لتسألن يومئذ عن النعيم والأمر قريب اقترب للناس حسابهم وأيضا فإنه تعالى لما قال وتنذر به قوما لدا وهم الشديدو الخصومة في الباطل، [ثم -] قال وكم أهلكنا قبلهم من قرن إلى آخرها، استدعت هذه الجملة بسط حال، فابتدئت بتأنيسه عليه الصلاة والسلام وتسليته، حتى لا يشق عليه لددهم، فتضمنت سورة طه من هذا الغرض بشارته بقوله ما أنـزلنا عليك القرآن لتشقى وتأنيسه بقصة موسى عليه السلام وما كان من حال بني إسرائيل وانتهاء أمر فرعون ومكابدة موسى عليه السلام لرد فرعون ومرتكبه إلى أن وقصه الله، وأهلكه، وأورث عباده أرضهم وديارهم، ثم أتبعت بقصة آدم عليه السلام ليرى نبيه صلى الله عليه وسلم سنته في عباده حتى أن آدم عليه السلام وإن لم يكن امتحانه بذريته ولا مكابدته من أبناء جنسه - فقد كابد من إبليس ما قصه الله في كتابه، وكل هذا تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه إذا تقرر لديه أنه سنة الله تعالى في عباده هان عليه لدد قريش [ ص: 381 ] ومكابدتهم، ثم ابتدئت سورة الأنبياء ببقية هذا التأنيس، فبين اقتراب الحساب ووقوع يوم الفصل المحمود فيه ثمرة ما كوبد في ذات الله والمتمنى فيه أن لو كان ذلك أكثر والمشقة أصعب لجليل الثمرة وجميل الجزاء، ثم أتبع ذلك سبحانه بعظات، ودلائل وبسط آيات، وأعلم أنه سبحانه قد سبقت سنته بإهلاك من لم يكن منه الإيمان من متقدمي القرون وسالفي الأمم

ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها وفي قوله أفهم يؤمنون تعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر قريش ومن قبل ما الكلام بسبيله، وقد تضمنت هذه السورة إلى ابتداء قصة إبراهيم عليه السلام من المواعظ والتنبيه على الدلالات وتحريك العباد إلى الاعتبار بها ما يعقب لمن اعتبر به التسليم والتفويض لله سبحانه والصبر على الابتلاء وهو من مقصود السورة، وفي قوله ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين إجمال لما فسره النصف الأخير من هذه السورة من تخليص الرسل عليهم السلام من قومهم وإهلاك من أسرف [وأفك -] ولم يؤمن، وفي ذكر تخليص الرسل وتأييدهم الذي تضمنه النصف الأخير من لدن قوله ولقد آتينا إبراهيم رشده إلى آخر السورة كمال الغرض المتقدم من التأنيس وملاءمة ما تضمنته سورة طه، وتفسير لمجمل وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم [ ص: 382 ] من أحد أو تسمع لهم ركزا [انتهى-] .

التالي السابق


الخدمات العلمية