1. الرئيسية
  2. نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
  3. سورة البقرة
  4. قوله تعالى ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله
صفحة جزء
ولما كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يتمنون في مكة المشرفة الإذن في مقارعة الكفار ليردوهم عما هم عليه من الأذى والغي والعمى عجب من حال بني إسرائيل حيث سألوا الأمر بالقتال ثم لم ينصفوا إذ أمروا تحذيرا من مثل حالهم، وتصويرا لعجيب قدرته على نقض العزائم وتقليب القلوب، وإعلاما بعظيم مقادير الأنبياء وتمكنهم في المعارف الإلهية، ودليلا على ختام الآية التي قبلها فقال مقبلا على أعلى الخلق إشارة إلى أن للنفوس من دقائق الوساوس ما لا يفهمه [ ص: 406 ] إلا البصراء: ألم تر

قال الحرالي : أراه في الأولى حال أهل الحذر من الموت بما في الأنفس من الهلع الذي حذرت منه هذه الأمة ثم أراه في هذه مقابل ذلك من الترامي إلى طلب الحرب وهما طرفا انحراف في الأنفس، قال صلى الله عليه وسلم: لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموه فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ففيه إشعار لهذه الأمة بأن لا تطلب الحرب ابتداء وإنما تدافع عن منعها من إقامة دينها كما قال سبحانه وتعالى: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وقال عليه الصلاة والسلام:

والمشركون قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا

فحق المؤمن أن يأبى الحرب ولا يطلبه فإنه إن طلبه فأوتيه عجز كما عجز هؤلاء حين تولوا إلا قليلا فهذه الأقاصيص ليس المراد منها حديثا عن الماضين وإنما هو إعلام بما يستقبله الآتون، إياك [ ص: 407 ] أعني واسمعي يا جارة! فلذلك لا يسمع القرآن من لم يأخذه بجملته خطابا لهذه الأمة بكل ما قص له من أقاصيص الأولين - انتهى.

ويجوز أن يكون الخطاب لكل من ألقى السمع وهو شهيد.

ولما كان الإخلال من الشريف أقبح قال إلى الملإ أي الأشراف،

قال الحرالي : الذين يملئون العيون بهجة والقلوب هيبة - انتهى.

ولما كان ذلك من أولاد الصلحاء أشنع قال: من بني إسرائيل ولما كان ممن تقرر له الدين واتضحت له المعجزات واشتهرت عنده الأمور الإلهيات أفحش قال من بعد موسى أي الذي أتاهم من الآيات بما طبق الأرض كثرة وملأ الصدور عظمة وأبقى فيهم كتابا عجبا ما بعد القرآن من الكتب السماوية مثله.

قال الحرالي : وفيه إيذان بأن الأمة تختل بعد نبيها بما يصحبها من نوره زمن وجوده [ ص: 408 ] معهم، قالوا: ما نفضنا أيدينا من تراب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا - انتهى.

إذ قالوا ولما كان الإخلاف مع الأكابر لا سيما مع الأنبياء أفظع قال: لنبي لهم ونكره لعدم مقتض لتعريفه.

قال الحرالي : لأن نبيهم المعهود الآمر لهم إنما هو موسى عليه الصلاة والسلام، ومن بعده إلى عيسى عليهم الصلاة والسلام إنما هم أنبياء بمنزلة الساسة والقادة لهم كالعلماء في هذه الأمة منفذون وعالمون بما أنزل على موسى عليه الصلاة والسلام كذلك كانوا إلى حين تنزيل الإنجيل فكما قص في صدر السورة حالهم مع موسى عليه الصلاة والسلام قص في خواتيمها حالهم من بعد موسى لتعتبر هذه الأمة من ذلك حالها مع نبيها صلى الله عليه وسلم وبعده انتهى.

ولما كان عندهم من الغلظة ما لا ينقادون به إلا لإنالة الملك وكان القتال لا يقوم إلا برأس جامع تكون الكلمة به واحدة قالوا: ابعث لنا أي خاصة ملكا أي يقيم لنا أمر الحرب نقاتل أي عن أمره في سبيل الله أي الملك الأعلى.

[ ص: 409 ] قال الحرالي في إعلامه أخذهم الأمر بمنة الأنفس حيث لم يظهر في قولهم إسناد إلى الله سبحانه وتعالى الذي لا تصح الأعمال إلا بإسنادها [ ص: 410 ] إليه فما كان بناء على تقوى تم، وما كان على دعوى نفس انهد قال أي ذلك النبي هل كلمة تنبئ عن تحقيق الاستفهام اكتفي بمعناها عن الهمزة - انتهى.

عسيتم أي قاربتم ولما كانت العناية بتأديب السائلين في هذا المهم أكثر قدم قوله: إن كتب أي فرض - كذا قالوا، والأحسن عندي كما يأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه في سورة براءة أن يكون المعنى: هل تخافون من أنفسكم، ولما كان القصد التنبيه على سؤال العافية والبعد عن التعرض للبلاء لخطر المقام بأن الأمر إذا وجب لم تبق فيه رخصة فمن قصر فيه هلك وسط بين عسى وصلتها قوله: عليكم القتال فرضا لازما، وبناه للمفعول صيانة لاسم الفاعل عن مخالفة يتوقع تقصيرهم بها ألا تقاتلوا فيوقعكم ذلك في العصيان، قال الحرالي : بكسر سين عسى وفتحها لغتان، عادة النحاة أن لا يلتمسوا اختلاف المعاني من أوساط الصيغ وأوائلها، وفي فهم اللغة وتحقيقها إعراب في الأوساط والأوائل كما اشتهر إعراب الأواخر عند عامة النحاة، فالكسر حيث [ ص: 411 ] كان مبنى عن باد عن ضعف وانكسار، والفتح معرب عن باد عن قوة واستواء - انتهى.

فكأنه صلى الله عليه وسلم فهم أن بعضهم يترك القتال عن ضعف عنه وبعضهم يتركه عن قوة ولذلك نفى الفعل ولم يقل: أن تعجزوا.

قال الحرالي : فأنبأهم بما آل إليه أمرهم فلم يلتفوا عنه وحاجوه وردوا عليه بمثل سابقة قولهم، ففي إشعاره إنباء بما كانوا عليه من غلظ الطباع وعدم سرعة التنبه - انتهى.

ولما كان مضمون هذا الاستفهام: إني أخشى عليكم القعود عن القتال أعلمنا الله عن جوابهم بقوله: قالوا أي لموسى في المخالفة ولما أرشد العطف على غير مذكور أن التقدير: ما يوجب لنا القعود وإنا لا نخاف ذلك على أنفسنا بل نحن جازمون بأنا نقاتل أشد القتال! عطف عليهم قولهم: وما أي وأي شيء لنا في ألا نقاتل ولما كانت النفس فيما لله أجد وإليه أنهض قالوا: [ ص: 412 ] في سبيل الله أي الذي لا كفؤ له إلهابا وتهييجا وقد أي والحال أنا قد أخرجنا أعم من أن يكون مع لإخراج إبعاد أو لا، وبناه للمجهول لأن موجب الإحفاظ والإخراج نفس الإخراج لا نسبة إلى حد بعينه من ديارنا التي هي لأبداننا كأبداننا لأرواحنا.

ولما كان في أخرجنا معنى أبعدنا عطف عليه وأبنائنا فخلطوا بذلك ما لله بما لغيره وهو أغنى الشركاء لا يقبل إلا خالصا.

قال الحرالي : فأنبأ سبحانه وتعالى أنهم أسندوا ذلك إلى غضب الأنفس على الإخراج وإنما يقاتل في سبيل الله من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا - انتهى.

ولما كان إخلاف الوعد مع قرب العهد أشنع قال: فلما بالفاء المؤذنة بالتعقيب كتب عليهم أي خاصة القتال أي الذي سألوه كما كتب عليكم بعد أن كنتم تمنونه إذ كنتم بمكة كما سيبين إن شاء الله تعالى في النساء عند قوله تعالى: ألم تر إلى الذين [ ص: 413 ] قيل لهم كفوا أيديكم تولوا فبادروا الإدبار بعد شدة ذلك الإقبال إلا قليلا منهم أي فقاتلوا والله عليم بهم والله أي الذي له الإحاطة بكل كمال عليم بالمتولين، هكذا كان الأصل ولكنه قال: بالظالمين معلما بأنهم سألوا البلاء وكان من حقهم سؤال العافية، ثم لما أجيبوا إلى ما سألوا أعرضوا عنه فكفوا حيث ينبغي المضاء ومضوا حيث كان ينبغي الكف فعصوا الله الذي أوجبه عليهم، فجمعوا بين عار الإخلاف وفضيحة العصيان وخزي النكوص عن الأقران وقباحة الخذلان للإخوان.

التالي السابق


الخدمات العلمية