صفحة جزء
ثم رتب على ذلك النتيجة حثا على الاقتداء بهم لنيل [ ص: 437 ] ما نالوا فقال عاطفا على ما تقديره: فأجاب الله سبحانه وتعالى دعاءهم: فهزموهم مما منه الهزيمة وهو فرار من شأنه الثبات - قاله الحرالي ، وقال: ولم يكن فهزمهم الله، كما لهذه الأمة في

ولكن الله قتلهم انتهى.

بإذن الله أي الذي له الأمر كله. ثم بين ما خص به المتولي لعظم الأمر بتعريض نفسه للتلف في ذات الله سبحانه وتعالى من الخلال الشريفة الموجبة لكمال الحياة الموصلة إلى البقاء السرمدي فقال: وقتل داود وكان في جيش طالوت جالوت

قال الحرالي : مناظرة قوله وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وكان فضل الله عليك عظيما - انتهى.

وفي الزبور في المزمور الحادي والخمسين بعد المائة وهو آخره: صغيرا كنت في إخوتي، حدثا في بيت [ ص: 438 ] أبي، راعيا غنمه، يداي صنعتا الأرغن، وأصابعي عملت القيثار، من الآن اختارني الرب إلهي واستجاب لي وأرسل ملاكه وأخذني من غنم أبي ومسحني بدهن مسحته إخوتي حسان وأكرمني ولم يسر بهم الرب، خرجت ملتقيا الفلسطيني الجبار الغريب فدعا علي بأوثانه فرميته بثلاثة أحجار في جبهته بقوة الرب فصرعته واستللت سيفه وقطعت به رأسه ونزعت العار عن بني إسرائيل .

وآتاه الله بجلاله وعظمته الملك

قال الحرالي : كان داود عليه الصلاة والسلام عندهم من سبط الملك فاجتمعت له المزيتان من استحقاق البيت وظهور الآية على يديه بقتل جالوت ، قال تعالى: والحكمة تخليصا للملك مما يلحقه بفقد الحكمة من اعتداء الحدود انتهى. فكان داود عليه الصلاة والسلام أول من جمع له بين الملك والنبوة وعلمه أي زيادة مما يحتاجان إليه مما يشاء من صنعة الدروع وكلام الطير وغير ذلك.

[ ص: 439 ] ولما بين سبحانه وتعالى هذه الواقعة على طولها هذا البيان الذي يعجز عنه الإنس والجان بين حكمة الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل ما هو أعم من ذلك من تسليط بعض الناس على بعض بسبب أنه جبل البشر على خلائق موجبة للتجبر وطلب التفرد بالعلو المفضي إلى الاختلاف فقال - بانيا له على ما تقديره: فدفع الله بذلك عن بني إسرائيل ما كان ابتلاهم به -: ولولا دفع الله المحيط بالحكمة والقدرة بقوته وقدرته الناس وقرئ: دفاع.

قال الحرالي : فعال من اثنين وما يقع من أحدهما دفع وهو رد الشيء [ ص: 440 ] بغلبة وقهر عن وجهته التي هو منبعث إليها بأشد منته، وهو أبلغ من الأول إشارة إلى أنه سبحانه وتعالى يفعل في ذلك فعل المبالغ.

ولما أثبت سبحانه وتعالى أن الفعل له خلقا وإيجادا بين أنه لعباده كسبا ومباشرة فقال: بعضهم ببعض فتارة ينصر قويهم على ضعيفهم كما هو مقتضى القياس، وتارة ينصر ضعيفهم - كما فعل في قصة طالوت - على قويهم حتى لا يزال ما أقام بينهم من سبب الحفظ بهيبة بعضهم لبعض قائما لفسدت الأرض بأكل القوي الضعيف حتى لا يبقى أحد ولكن الله تعالى بعظمته وجلاله وعزته وكماله يكف بعض الناس ببعض ويولي بعض الظالمين بعضا وقد يؤيد الدين بالرجل الفاجر على نظام دبره وقانون أحكمه في الأزل يكون سببا لكف القوي عن الضعيف إبقاء لهذا الوجود على هذا النظام إلى الحد الذي حده ثم يزيل الشحناء على زمن عيسى عليه الصلاة والسلام [ ص: 441 ] ليتم العلم بكمال قدرته واختياره وذلك من فضله على عباده وهو ذو فضل عظيم جدا على العالمين أي كلهم أولا بالإيجاد وثانيا بالدفاع فهو يكف من ظلم الظلمة إما بعضهم ببعض أو بالصالحين وقليل ما هم ويسبغ عليهم غير ذلك من أثواب نعمه ظاهرة وباطنة، ومما يشتد اتصاله بهذه القصة ما أسنده الحافظ أبو القاسم بن عساكر في الكنى من تاريخ دمشق في ترجمة أبي عمرو بن العلاء عن الأصمعي قال: أنشدنا أبو عمرو بن العلاء قال: سمعت أعرابيا ينشد وقد كنت خرجت إلى ظاهر البصرة متفرجا مما نالني من طلب الحجاج واستخفائي منه:


صبر النفس عند كل ملم إن في الصبر حيلة المحتال     لا تضيقن في الأمور فقد
يكشف لأواؤها بغير احتيال     ربما تجزع النفوس من
الأمر له فرجة كحل العقال     قد يصاب الجبان في آخر
الصف وينجو مقارع الأبطال

فقلت ما وراءك يا أعرابي؟ فقال: مات الحجاج ، فلم أدر بأيهما أفرح بموت الحجاج أو بقوله: له فرجة! لأني كنت أطلب شاهدا لاختياري [ ص: 442 ] القراءة في سورة البقرة إلا من اغترف غرفة – انتهى .

ولعل ختام قصص بني إسرائيل بهذه القصة لما فيها للنبي صلى الله عليه وسلم من واضح الدلالة على صحة دعواه الرسالة لأنها مما لا يعلمه إلا القليل من حذاق علماء بني إسرائيل ثم عقبها بآية الكرسي التي هي العلم الأعظم من دلائل التوحيد فكان ذلك في غاية المناسبة لما في أوائل السورة في قوله تعالى

يا أيها الناس اعبدوا ربكم إلى آخر تلك الآيات من دلائل التوحيد المتضمنة لدلائل النبوة المفتتح بها قصص بني إسرائيل فكانت دلائل التوحيد مكتنفة قصتهم أولها وآخرها مع ما في أثنائها جريا على الأسلوب الحكيم في مناضلة العلماء ومجادلة الفضلاء، فكان خلاصة ذلك كأنه قيل: " الم " تنبيها للنفوس بما استأثر العليم سبحانه وتعالى بعلمه فلما ألقت الأسماع وأحضرت الأفهام قيل يا أيها الناس فلما عظم التشوف قال اعبدوا ربكم ثم عينه بعد وصفه بما بينه بقوله الله لا إله إلا هو الحي القيوم كما سيجمع ذلك من غير فاصل أول سورة التوحيد آل عمران المنزلة في مجادلة أهل الكتاب من النصارى وغيرهم، وتختم قصصهم بقوله: ربنا إننا سمعنا [ ص: 440 ] مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم يعني بالمنادي والله سبحانه وتعالى أعلم القائل يا أيها الناس اعبدوا ربكم - إلى آخرها، ومما يجب التنبه له من قصتهم هذه ما فيها لأنها تدريب لمن كتب عليهم القتال وتأديب في ملاقاة الرجال من الإرشاد إلى أن أكثر حديث النفس وأمانيها الكذب لا سيما بالثبات في مزال الأقدام فتشجع الإنسان، فإذا تورط أقبلت به على الهلع حتى لا يتمنوا لقاء العدو كما أدبهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم، وذلك أن بني إسرائيل مع كونهم لا يحصون كثرة سألوا نبيهم صلى الله عليه وسلم بعث ملك للجهاد، فلما بعث فخالف أغراضهم لم يفاجئوه إلا بالاعتراض، ثم لما استقر الحال بعد نصب الأدلة وإظهار الآيات ندبهم، فانتدب جيش لا يحصى كثرة، فشرط عليهم الشاب الفارغ بناء دار وبناء بامرأة، فلم يكن الموجود بالشرط إلا ثمانين ألفا; ثم امتحنوا بالنهر فلم يثبت منهم إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر وهم دون الثلث من ثمن العشر من المتصفين بالشرط من الذين هم دون الدون من المنتدبين الذين هم دون الدون من السائلين في بعث الملك، فكان الخالصون معه، كما قال بعض الأولياء المتأخرين لآخر قصده بالزيارة:


ألم تعلم بأني صيرفي     أحك الأصدقاء على محك
[ ص: 444 ] فمنهم بهرج لا خير فيه     ومنهم من أجوزه بشك
وأنت الخالص الذهب المصفى     بتزكيتي ومثلي من يزكي



وهذا سر قول الصادق عليه الصلاة والسلام أمتي كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة وقوله صلى الله عليه وسلم لا تمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا فالحاصل أنه على العاقل المعتقد جهله بالعواقب وشمول قدرة ربه أن لا يثق بنفسه في شيء من الأشياء، ولا يزال يصفها بالعجز وإن ادعت خلاف ذلك، ويتبرأ من حوله وقوته إلى حول مولاه وقوته ولا ينفك يسأله العفو والعافية.

التالي السابق


الخدمات العلمية