صفحة جزء
ولما رتب سبحانه هذه الأدلة على هذا الوجه ترقيا من أعم إلى أخص ، ومن أرض إلى سماء ، ختمها بما يعمها وغيرها ، إرشادا إلى قياس ما غاب منها على ما شوهد ، فلزم من ذلك قطعا القدرة على الإعادة ، فساقها لذلك سياق المشاهد المسلم ، وعد من أنكره في عداد من لا يلتفت إليه [فقال : ] أمن يبدأ الخلق أي كله : ما علمتم منه وما لم تعلموا ، ثم بيده لأن كل شيء هالك إلا وجهه ، له هذا الوصف باعترافكم يتجدد أبدا تعلقه. ولما كان من اللازم البين لهم الإقرار بالإعادة لاعترافهم بأن كل من أبدى شيئا قادر على إعادته ، لأن الإعادة أهون ، قال : ثم يعيده أي : بعد ما يبيده.

ولما كان الإمطار والإنبات من أدل ما يكون على الإعادة ، قال [ ص: 200 ] مشيرا إليهما على وجه عم جميع ما مضى : ومن يرزقكم من السماء أي : بالمطر والحر والبرد وغيرهما مما له سبب في التكوين أو التلوين والأرض أي : بالنبات والمعادن والحيوان وغيرهما مما لا يعلمه إلا الله ، وعبر عنهما بالرزق لأن به تمام النعمة أإله مع الله أي : الذي له صفات الجلال والإكرام ، كائن ، أو يفعل شيئا من ذلك.

ولما كانت هذه كلها براهين ساطعة ، ودلائل قاطعة ، وأنوارا لامعة ، وحججا باهرة ، وبينات ظاهرة ، وسلاطين قاهرة ، على التوحيد المستلزم للقدرة على البعث وغيره من كل ممكن ، أمره صلى الله عليه وسلم إعراضا عنهم ، إيذانا بالغضب في آخرها [بأمرهم] بالإتيان ببرهان واحد على صحة معتقدهم فقال : قل أي : هؤلاء المدعين للعقول هاتوا برهانكم أي : على نفي شيء من ذلك عن الله تعالى ، أو على إثبات شيء منه لغيره ، لتثبت دعوى الشركة في الخلق فتسمع دعوى الشركة في الألوهية ، وليكن إتيانكم بذلك ناجزا من غير مهلة ، لأن من يدعي العقل لا يقدر على شيء إلا ببرهان حاضر إن كنتم صادقين أي : في أنكم على حق في أن مع الله غيره ، وأضاف البرهان إليهم إضافة ما كأنه عنيد ، لا كلام في وجوده وتحققه ، وإنما المراد الإتيان به كل ذلك تهكما بهم وتنبيها على أنهم أبعدوا في الضلال ، وأعرقوا في [ ص: 201 ] المحال ، حيث رضوا لأنفسهم بتدين لا يصير إليه عاقل إلا بعد تحقق القطع بصحته ، ولا شبهة في أنه لا شبهة لهم على شيء منه.

التالي السابق


الخدمات العلمية