صفحة جزء
ولما كانت مضمونات هذه البراهين متوقفة على علم الغيب ، لأنه لا يخرج الخبء باختراع الخلق وكشف الضر وإحكام التدبير إلا به ، لأنه لا قدرة أصلا لمن لا علم له ولا تمام لقدرة من لا تمام لعلمه - كما مضى بيانه في طه ، وطالبهم سبحانه آخر هذه البراهين بالبرهان على الشرك ، وكانوا ربما قالوا : سنأتي به ، أمر أن يعلموا أنه لا برهان لهم عليه ، بل البرهان قائم على خلافه ، فقال : قل أي : لهم أو لكل من يدعي دعواهم : لا يعلم أحد ، ولكنه عبر بأداة العقلاء فقال : من لئلا يخصها متعنت بما لا يعقل ، عبر بالظرف تنبيها على أن المظروف محجوب ، وكل ظرف حاجب لمظروفه عن علم ما وراءه ، فقال : في السماوات والأرض الغيب أي : الكامل في الغيبة ، وهو الذي لم يخرج إلى عالم الشهادة أصلا ، ولا دلت عليه أمارة ، ليقدر على شيء مما تقدم في هذه الآيات من الأمور فيعلمه.

ولما كان الله تعالى منزها عن أن يحويه مكان جعل الاستثناء هنا منقطعا ، ومن حق المنقطع النصب [كما قرأ به ابن أبي عبلة شاذا] ، لكنه رفع [بإجماع العشرة] بدلا على لغة [بني] تميم ، فقيل : [ ص: 202 ] إلا الله أي : المختص بصفات الكمال كما قيل في الشعر :


وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس



بمعنى : إن كانت اليعافير أنيسا ففيها أنيس ، بتا للقول بخلوها من الأنيس ، فيكون معنى الآية : إن [كان] الله جل وعلا ممن في السماوات والأرض ففيهم من يعلم الغيب ، يعني أن علم أحدهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم ، ويصح كونه متصلا ، والظرفية في [حقه] سبحانه مجاز بالنسبة إلى علمه وإن كان فيه جمع بين الحقيقة والمجاز ، وعلى هذا فيرتفع على البدل أو الصفة ، والرفع أفصح من النصب ، لأنه من منفي ، وقد عرف بهذا سر كونه لم يقل "لا يعلم أحد الغيب إلا هو" وهو التنبيه على المظروفية والحاجة ، وأن الظرف حجاب ، لا يرتاب فيه مرتاب ، وجعل ابن مالك متعلق الظرف خاصا تقديره : يذكر ، وجعل غيره "من" مفعولا والغيب بدل اشتمال ، والاستثناء مفرغا ، فالتقدير : لا يعلم غيب المذكورين - أي : ما غاب عنهم - كلهم غيره.

ولما كان الخبر - الذي لم يطلع عليه أحد من الناس - قد يخبر به الكهان ، أو أحد من الجان ، من أجواف الأوثان ، وكانوا يسمون هذا غيبا وإن كان في الحقيقة ليس به لسماعهم له من السماء بعد ما أبرزه الله إلى عالم [ ص: 203 ] الشهادة للملائكة ومن يريد من عباده ، وكانوا ربما تعنتوا به عن العبارة ، وكانت الساعة قد ثبت أمرها ، وشاع في القرآن وعلى لسان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأصحابهم رضي الله تعالى عنهم ذكرها ، بحيث صارت بمنزلة ما لا نزاع فيه ، وكان علم وقتها من الغيب المحض ، قال : وما يشعرون أي : أحد ممن في السماوات والأرض وإن اجتمعوا وتعاونوا أيان [أي : ] أي وقت يبعثون فمن أعلم بشيء من ذلك على الحقيقة بان صدقه ، ومن تخرص ظهر كذبه.

التالي السابق


الخدمات العلمية