صفحة جزء
ولما كان الجواب لكل من أنصف : هم في ضلال مبين لأنهم ينحتون من عند أنفسهم ما لا دليل عليه ، وأنت جئت بالهدى لأنك أتيت به عن الله ، بنى عليه قوله : وما ويجوز أن تكون الجملة حالا من الضمير في " عليك " وما بينهما اعتراض للاهتمام بالرد على المنكر للمعاد ، أي : فرضه عليك والحال أنك ما ، ويجوز أن يقال : لما كان رجوعه إلى مكة في غاية البعد لكثرة الكفار وقلة الأنصار ، قربه بقوله معلما أن كثيرا من الأمور تكون على غير رجاء ، بل وعلى خلاف القياس : وما كنت ترجو أي : في سالف الدهر بحال من الأحوال أن يلقى أي : ينزل على وجه لم يقدر على رده إليك الكتاب أي : بهذا الاعتقاد ولا بشيء منه; ولا كان هذا من شأنك ، ولا سمعه أحد منك يوما من الأيام ، ولا تأهبت لذلك أهبته العادية من تعلم خط أو مجالسة عالم ليتطرق إليك نوع اتهام ، كما يشير إليه قوله تعالى في التي بعدها : وما كنت تتلو من قبله من كتاب الآية ، واختير هنا لفظ الكتاب لأن السياق للرحمة التي من ثمراتها الاجتماع [ ص: 379 ] المحكم ، وذلك مدلول الكتاب; ثم قال : إلا أي : لكن ألقي إليك الكتاب رحمة أي : لأجل رحمة عظيمة لك ولجميع الخلائق بك ، لم تكن ترجوها من ربك أي : المحسن إليك بجعلك مصطفى لذلك ، بالدعاء إليه وقصر الهمم عليه ، وعبر بأداة الاستثناء المتصل إشارة إلى أن حاله قبل النبوة من التنزه عن عبادة الأوثان وعن القرب منها والحلف بها وعن والفواحش جميعا ، ومن الانقطاع إلى الله بالخلوة معه والتعبد له توفيقا من الله كان حال من يرجو ذلك.

ولما تسبب عما تقدم الاجتهاد في [تحريك الهمم إلى العكوف على] أمر الله طمعا فيما عنده سبحانه من الثواب ، وشكرا على إنزال الكتاب ، قال في سياق التأكيد لأن الطبع البشري يقتضي إدراك مظاهرة الكفار لأمر من التوفيق عظيم ، لكثرتهم وقوتهم وعزتهم : فلا تكونن [إذ ذاك] بسبب اتصافهم لك لكثرتهم ظهيرا أي : معينا للكافرين بالمكث بين ظهرانيهم ، أو بالفتور عن الاجتهاد في دعائهم ، يأسا منهم لما ترى من بعدهم من الإجابة وإن طال إنذارك ، لا تمل أنت كما لم نمل نحن ، فقد وصلنا لهم القول ، وتابعنا لهم الوعظ [ ص: 380 ] والقص ، ونحن قادرون على إهلاكهم في لحظة ، وهدايتهم في أقل لمحة ، وكما أن موسى عليه الصلاة والسلام بعد الإنعام عليه لم يكن ظهيرا للمجرمين ، وهذا تدريب من الله تعالى لأئمة الأمة في الدعاء إلى الله عند كثرة المخالف ، وقلة الناصر المحالف.

التالي السابق


الخدمات العلمية