1. الرئيسية
  2. نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
  3. سورة البقرة
  4. قوله تعالى وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين
صفحة جزء
ولما ثبتت هذه الأدلة فوجب امتثال ما دعت إليه ولم يبق لمتعنت شبهة إلا أن يقول : لا أفعل حتى أعلم أن هذا الكتاب الذي تقدم أنه الهدى كلام الله ، قال مبينا أنه من عنده نظما كما كان من عنده معنى ، محققا ما ختم به التي قبلها من أن من توقف عما دعا إليه من التوحيد وغيره لا علم له بوجه ، وأتى بأداة الشك سبحانه مع علمه بحالهم تنبيها على أنه من البعيد جدا أن يجزم بشكهم بعد هذا البيان : وإن أي فإن كنتم من ذوي البصائر الصافية والضمائر النيرة علمتم بحقيقة هذه المعاني وجلالة هذه الأساليب وجزالة تلك التراكيب أن هذا [ ص: 160 ] كلامي ، فبادرتم إلى امتثال ما أمر والانتهاء عما عنه زجر . وإن كنتم في ريب أي شك محيط بكم من الكتاب الذي قلت - ومن أصدق مني قيلا - : إنه لا ريب فيه

[ ص: 161 ] وأشار هنا أيضا إلى عظمته وعظمة المنزل عليه بالنون التفاتا من الغيبة إلى التكلم فقال : مما نـزلنا قال الحرالي : من التنزيل وهو التقريب للفهم بتفصيل وترجمة ونحو ذلك . انتهى . على عبدنا أي الخالص لنا الذي لم يتعبد لغيرنا قط ، فلذلك استحق الاختصاص دون عظماء القريتين وغيرهم ، فارتبتم في أنه كلامنا نزل بأمرنا وزعمتم أن عبدنا محمدا أتى به من عنده لتوهمكم أن فيما سمعتم من الكلام شيئا مثله [ ص: 162 ] لأجل الإتيان به منجما أو غير ذلك من أحواله .

فأتوا أي على سبيل التنجيم أو غيره ، قال الحرالي : الآتي بالأمر يكون عن مكنة وقوة بسورة أي نجم واحد . قال الحرالي : السورة تمام جملة من المسموع يحيط بمعنى تام بمنزلة إحاطة السور بالمدينة . انتهى . وتفصيل القرآن إلى سور وآيات ، لأن الشيء إذا كان جنسا وجعلت له أنواع واشتملت أنواعه على أصناف ؛ كان أحسن وأفخم لشأنه وأنبل ، ولا سيما إذا تلاحقت الأشكال بغرابة [ ص: 163 ] الانتظام ، وتجاوبت النظائر بحسن الالتيام ، وتعانقت الأمثال بالتشابه في تمام الأحكام وجمال الأحكام ، وذلك أيضا أنشط للقارئ وأعظم عنده لما يأخذه منه مسمى بآيات معدودة أو سورة معلومة وغير ذلك من مثله أي من الكلام الذي يمكنكم أن تدعوا أنه مثل ما نزلنا كما قال : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله فإن عبدنا منكم ونشأ بين أظهركم ، فهو لا يقدر على أن يأتي بما لا تقدرون على مثله إلا بتأييد منا .

ولما كانوا يستقبحون الكذب ؛ قال : وادعوا شهداءكم أي من تقدرون على دعائه من الموجودين بحضرتكم في بلدتكم أو ما قاربها ، [ ص: 164 ] والشهيد كما قال الحرالي من يكثر الحضور لديه ، واستبصاره فيما حضره . انتهى .

من دون الله أي لينظروا بين الكلامين فيشهدوا بما تؤديهم إليه معرفتهم من المماثلة أو المباينة فيزول الريب ويظهر إلى الشهادة الغيب أو ليعينوكم على الإتيان بمثل القطعة المحيطة التي تريدون معارضتها . قال الحرالي : والدون منزلة القريب ، فالقريب من جهة سفل ، وقد عقلت العرب أن اسم الله لا يطلق على ما ناله إدراك العقل ، فكيف بالحس ! فقد تحققوا أن كل ما أدركته حواسهم ونالته عقولهم فإنه من دون الله . انتهى .

[ ص: 165 ] ففي التعبير به توبيخ لهم بأنهم لم يرضوا بشهادته سبحانه .

وحكمة الإتيان بمن التبعيضية في هذه السورة دون بقية القرآن : أنه سبحانه لما فرض لهم فيها الريب الذي يلزم منه زعمهم أن يكونوا اطلعوا له على مثيل أو سمعوا أن أحدا عثر له على شبيه اقتضى الحال الإتيان بها ليفيد أن المطلوب منهم في التحدي قطعة من ذلك المثل الذي ادعوه حكيمة المعاني متلائمة المباني منتظم أولها بآخرها كسور المدينة في صحة الانتظام وحسن الالتيام والإحاطة بالمباني التي هي كالمعاني والتقاء الطرفين حتى صار بحيث لا يدرى أوله من آخره سواء كانت القطعة المأتي بها تباري آية أو ما فوقها لأن آيات القرآن كسورة يعرف من ابتدائها ختامها ويهدي إلى افتتاحها تمامها ، فالتحدي هنا منصرف إلى الآية بالنظر الأول وإلى ما فوقها بالنظر الثاني .

والمراد بالسورة هنا مفهومها اللغوي ، لأنها من المثل المفروض [ ص: 166 ] وهو لا وجود له في الخارج حتى يكون لقطعه اصطلاح في الأسماء معروف ، ولأن معرفة المعنى الاصطلاحي كانت مخصوصا بالمصدقين ولو أريد التحدي بسورة من القرآن لقيل : فائتوا بمثل سورة منه ، ولما كان هذا هو المراد ؛ قصرهم في الدعاء على من بحضرتهم من الشهداء ، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة يونس عليه السلام وبقية السور المذكورة فيها هذا المعنى ما يتم به هذا الكلام .

وفي قوله : إن كنتم صادقين إيماء إلى كذبهم في دعوى الشك فيه ، قال الحرالي : والصادق الذي يكون قول لسانه وعمل جوارحه مطابقا لما احتوى عليه قلبه مما له حقيقة ثابتة بحسبه ، وقال : اتسقت آية تنزيل الوحي بآية إنزال الرزق لما كان نزول ما نزل على الرسول المخصص بذلك ينبغي اعتباره بمقابلة نزول الرزق ، لأنهما رزقان : أحدهما ظاهر يعم الكافر في نزوله ، والآخر وهو الوحي رزق [ ص: 167 ] باطن يخص الخاصة بنزوله ويتعين له أيهم أتمهم فطرة وأكملهم ذاتا ؛ ولم يصلح أن يعم بنزول هذا الرزق الباطن كعموم الظاهر ، فتبطل حكمة الاختصاص في الرزقين ، فإن نازعهم ريب في الاختصاص فيفرضون أنه عام فيحاولون معارضته ، وكما أنهم يشهدون بتمكنهم من الحس عند محاولته عمومه ؛ فكذلك يجب أن يشهدوا بعجزهم عن سورة من مثله تحقق اختصاص من نزل عليه به وأجرى ذكره باسم العبودية إعلاما بوفائه بأنحاء التذلل وإظهارا لمزية انفراده بذلك دونهم ليظهر به سبب الاختصاص .

وانتظم النون في " نزلنا " من يتنزل بالوحي من روح القدس ، والروح الأمين ، ونحو ذلك ؛ لأنها تقتضي الاستتباع ، واقتضت النون في لفظ " عبدنا " ما يظهره النبي صلى الله عليه وسلم لهم من الانقياد والاتباع وما اقتضاه خلقه العظيم من خفض الجناح ، حتى إنه يوافق من وقع على وجه من الصواب من أمته صلى الله عليه وسلم ، وحتى إنه يتصف بأوصاف العبد في أكله كما قال : آكل كما يأكل العبد . انتهى .

والتحدي بسورة يشمل أقصر سورة كالكوثر ومثلها في التحدي [ ص: 168 ] آية مستقلة توازيها وآيات ، كما قاله الإمام جلال الدين محمد بن أحمد المحلي في شرح جمع الجوامع ، وسبقه الإمام شمس الدين محمد بن عبد الدائم البرماوي فنظمه في الألفية في الأصول ونقله في شرحها عن ظاهر كلام إمام الحرمين في الشامل وعن كلام الفقهاء في الصداق فيما لو أصدقها تعليم سورة فلقنها بعض آية ، وسبقهما العلامة سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني فقال في تلويحه على توضيح صدر الشريعة : المعجز هو السورة أو مقدارها هكذا ذكر الذين تكلموا في الإعجاز من الأصوليين وغيرهم أن التحدي وقع بسورة من القرآن ، والصواب أنه إنما وقع بقطعة آية فما فوقها ، لأن المراد بالسورة مفهومها اللغوي لا الاصطلاحي كما تقدم بيانه .

والحاصل أنه لما كان في آيات المنافقين ذكر الأمثال وكانوا قد استغربوا بعض أمثال القرآن وجعلوها موضعا للشك من حيث كانت موضعا لليقين فقالوا : لو كان هذا من عند الله لما ذكر فيه أمثال هذه الأمثال ، لأنه أعظم من أن يذكر ما دعاهم إلى المعارضة في هذه السورة [ ص: 169 ] المدنية بكل طريق يمكنهم ، وأخبرهم بأنهم عاجزون عنها وأن عجزهم دائم تحقيقا لأنهم في ذلك الحال معاندون لا شاكون .

التالي السابق


الخدمات العلمية