صفحة جزء
ولما أفاد هذا الخبر كله القرآن الذي لا حق أحق منه ، ودل على أن فهم أمثاله يحتاج إلى مزيد علم ، وأن مفتاح العلم به سبحانه رسوخ الإيمان ، خاطب رأس أهل الإيمان لأنه أعظم الفاهمين له ليقتدي به الأتباع فقال : [ ص: 447 ] اتل ما أي : تابع قراءته; ودل على شرفه لاختصاصه به بقوله : أوحي إليك إذ الوحي الإلقاء سرا من الكتاب [أي : ] الجامع لكل خير ، فإنه المفيد للإيمان ، مع أنه أحق الحق الذي خلقت السماوات والأرض لأجله ، والإكثار في تلاوته يزيد بصيرة في أمره ، ويفتح كنوز الدقائق من علمه ، وهو أكرم من أن ينيل قارئه فائدة وأجل من أن يعطي قياد فوائده ويرفع الحجاب عن جواهره وفرائده في أول مرة ، بل كلما ردده القارئ بالتدبر حباه بكنز من أسراره ، ومهما زاد زاده [من] لوامع أنواره ، إلى أن يقطع بأن عجائبه لا تعد ، وغرائبه لا تحد.

ولما أرشد إلى مفتاح العلم ، دل قانون العمل الذي لا يصح إلا بالقرآن ، وهو ما يجمع الهم ، فيحضر القلب ، فينشرح الصدر ، فينبعث الفكر في رياض علومه ، فقال : وأقم الصلاة أي : التي هي أحق العبادات ، ثم علل ذلك بقوله دالا بالتأكيد على فخامة أمرها ، وأنه مما يخفى على غالب الناس : إن الصلاة تنهى أي : توجد النهي وتجدده للمواظب على إقامتها بجميع حدودها عن الفحشاء أي : الخصال ألتي بلغ قبحها والمنكر أي : الذي فيه نوع قبح وإن دق ، وأقل ما فيها من النهي النهي عن تركها الذي هو كفر ، ومن انتهى [ ص: 448 ] عن ذلك انشرح صدره ، واتسع فكره ، فعلم من أسرار القرآن ما لا يعلمه غيره واتقوا الله ويعلمكم الله

ولما كان الناهي في الحقيقة إنما هو ذكر الله ، أتبع ذلك الحث على روح الصلاة والمقصد الأعظم منها ، وهو المراقبة لمن يصلي [له] حتى كأنه يراه ليكون بذلك في أعظم الذكر بقوله : ولذكر الله أي : ولأن ذكر المستحق لكل صفة كمال أكبر أي : من كل شيء ، فمن استحضر ذلك بقلبه هان عنده كل شيء سواه : "إن عبدي كل عبدي للذي يذكرني عند لقاء قرنه" ، أو يكون المراد أن من واظب على الصلاة ذكر الله ، ومن ذكره أوشك أن يرق قلبه ، ومن رق قلبه استنار لبه ، فأوشك أن ينهاه هذا الذكر المثمر لهذه الثمرة عن المعصية ، فكان ذكر الذاكر له سبحانه أكبر نهيا له عن المنكر من نهي الصلاة له ، وكان ذكره له سبحانه كبيرا ، كما قال تعالى : فاذكروني أذكركم وإذا كان هذا شأن ذكر العبد لمولاه ، فما ظنك بذكر مولاه له كلما أقبل عليه بصلاة فإنه جدير بأن يرفعه إلى حد لا يوصف ، ويلبسه من أنواره ملابس لا تحصر.

[ ص: 449 ] ولما كان ذلك يحتاج إلى علاج لمعوج الطباع ومنحرف المزاج ، وتمرن على شاق الكلف ، ورياضة لجماح النفوس ، وكان صلى الله عليه وسلم قد نزه عن ذلك كله بما جبل عليه من أصل الفطرة ، ثم [بما] غسل به قلبه من ماء الحكمة ، [وغير ذلك] من جليل النعمة ، عدل إلى خطاب الأتباع يحثهم على المجاهدة فقال : والله أي : المحيط علما وقدرة يعلم أي : في كل وقت ما تصنعون من الخير والشر ، معبرا بلفظ الصنعة الدال على ملازمة العمل تنبيها على أن إقامة ما ذكر تحتاج إلى تمرن عليه وتدرب ، حتى يصير طبعا صحيحا ، ومقصودا صريحا.

التالي السابق


الخدمات العلمية