صفحة جزء
ولما ذكر هاتين الصفتين، أتبعهما ما خففه عنه من أمرهن إكراما له صلى الله عليه وسلم مما كان من شأنه أن يتحمل فيه ويتخرج عن فعله، فقال في موضع الاستئناف، أو الحال من معنى التخفيف في الجمل السابقة: ترجي بالهمز على قراءة الجماعة أي تؤخر من تشاء منهن أي من الواهبات فلا تقبل هبتها أو من نسائك بالطلاق أو غيره مع ما يؤنسها من أن تؤويها، وبغير همز عند حمزة والكسائي وحفص من الرجاء أي تؤخرها مع أفعال يكون بها راجية لعطفك وتؤوي أي تضم وتقرب بقبول الهبة أو بالإبقاء في العصمة بقسم وبغير قسم بجماع وبغير جماع تخصيصا له بذلك عن سائر الرجال إليك من تشاء [ ص: 385 ] وسبب نزول هذه الآية أنه لما نزلت آية التخيير أشفقن أن يطلقهن فقلن: يا نبي الله! اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت، ودعنا على حالنا، فنزلت.

ولما كانت ربما مال إلى من فارقها، بين تعالى حكمها فقال: ومن ابتغيت أي مالت نفسك إلى طلبها ممن عزلت أي أوقعت عزلها بطلاق أو رد هبة فلا جناح عليك أي في إيوائها بعد ذلك بقبول هبتها أو بردها إلى ما كانت عليه من المنزلة عندك من قيد النكاح أو القسم.

ولما كانت المفارقة من حيث هي - ولا سيما إن كان فراقها لما فهم منها من كراهية يظن بها - أنها تكره الرجعة، أخبر سبحانه أن نساءه صلى الله عليه وسلم على [غير] ذلك فقال: ذلك أي الإذن لك من الله والإيواء العظيم الرتبة، لما لك من الشرف أدنى أي أقرب من الإرجاء ومن عدم التصريح بالإذن في القرآن المعجز، إلى أن تقر أعينهن أي بما حصل لهن من عشرتك الكريمة، وهو كناية عن السرور والطمأنينة ببلوغ المراد، لأن من كان كذلك كانت عينه قارة، ومن كان مهموما كانت عينه كثيرة التقلب لما يخشاه - هذا إن كان من القرار بمعنى السكون، ويجوز أن يكون من القر الذي هو [ ص: 386 ] ضد الحر، لأن المسرور [تكون] عينه باردة، والمهموم تكون عينه حارة، فلذلك يقال للصديق: أقر الله عينك، وللعدو: أسخن الله عينك ولا يحزن أي بالفراق وغيره مما يحزن من ذلك ويرضين لعلمهن أن ذلك من الله لما للكلام من الإعجاز بما آتيتهن أي من الأجور وغيرها من نفقة وقسم وإيثار وغيرها.

ولما كان التأكيد أوقع في النفس وأنفى للبس، وكان هذا أمرا غريبا لبعده عن الطباع أكد فقال: كلهن أي ليس منهن واحدة إلا هي كذلك راغبة فيك راضية بصحبتك إن آويتها أو أرجأتها لما لك من حسن العشرة وكرم الأخلاق ومحاسن الشمائل وجميل الصحبة، وإن اخترت فراقها علمت أن هذا أمر من الله جازم، فكان ذلك أقل لحزنها فهو أقرب إلى قرار عينها بهذا الاعتبار، وزاد ذلك تأكيدا لما له من الغرابة التي لا تكاد تصدق بقوله [عطفا على نحو فالله يعلم ما في قلوبهم ]: والله أي بما له من الإحاطة بصفات الكمال يعلم أي علما مستمرا لتعلق ما في قلوبكم [أي] أيها الخلائق كلكم، فلا بدع إن علم ما في قلوب هؤلاء.

ولما رغبه سبحانه في الإحسان إليهن بإدامة الصحبة بما أخبره من [ ص: 387 ] ودهن ذلك، لكونه صلى الله عليه وسلم شديد المحبة لإدخال السرور على القلوب، زاده ترغيبا بقوله: وكان الله أي أزلا وأبدا عليما أي بكل شيء ممن يطيعه ومن يعصيه حليما لا يعاجل من عصاه، يل يديم إحسانه إليه في الدنيا فيجب أن يتقي لعلمه وحلمه، فعلمه موجب للخوف منه، وحلمه مقتض للاستحياء منه، وأخذ الحليم شديد، فينبغي لعبده المحب له أن يحلم عمن يعلم تقصيره في حقه، فإنه سبحانه يأجره على ذلك بأن يحلم عنه فيما علمه منه، وأن يرفع قدره ويعلي ذكره، روى البخاري في التفسير عن معاذة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن أنزلت هذه الآية ترجي من تشاء منهن الآية، قلت لها: ما كنت تقولين؟ قالت: كنت أقول له: إن [كان] ذاك إلي فإني لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحدا.

التالي السابق


الخدمات العلمية