صفحة جزء
ولما أشار سبحانه بهذا الكلام الذي دل فيه على نفوذ الأمر إلى أنه تارة يعدل وتارة يفضل، وكان الفضل أكثر استجلابا لذوي الهمم العلية والأنفس الأبية، بدأ به في عبد من رؤوس المنيبين على وجه دال [ ص: 456 ] على البعث بكمال التصرف في الخافقين وما فيهما بأمور شوهدت لبعض عبيده تارة بالعيان وتارة بالآذان، أما عند أهل الكتاب فواضح، وأما عند العرب فبتمكينهم من سؤالهم فقد كانوا يسألونهم عنه صلى الله عليه وسلم وقال أبو حيان : إن بعض ذلك طفحت به أخبارهم ونطقت به أشعارهم، فقال تعالى مقسما تنبيها على أن إنكارهم للبعث إنكار لما يخبر به من المعجزات، عاطفا على ما تقديره: فلقد آتينا هذا الرجل الذي نسبتموه إلى الكذب أو الجنون منا فضلا بهذه الأخبار المدلول عليها بمعجز القرآن فيا بعد [ما بينه وبين] ما نسبتموه إليه: ولقد [أي] وعزتنا وما ثبت لنا من الإحاطة بصفات الكمال بالاتصاف بالحمد لقد آتينا أي أعطينا إعطاء عظيما دالا على نهاية المكنة بما لنا من العظمة داود

ولما كان المؤتى قد تكون واسطة لمن منه الإيتاء، بين أن الأمر ليس إلا منه فقال: منا فضلا ودل على أن التنوين للتعظيم وأنه لا يتوقف تكوين شيء على غير إرادته بقوله، منزلا الجبال منزلة العقلاء الذين يبادرون [إلى] امتثال أوامره، تنبيها على كمال قدرته وبديع تصرفه في الأشياء كلها جوابا لمن كأنه قال: ما ذلك الفضل؟ مبدلا [ ص: 457 ] من " آتينا " : يا أي قلنا لأشد الأرض: يا جبال أوبي أي رجعي التسبيح وقراءة الزبور وغيرهما من ذكر الله معه أي كلما سبح، فهذه آية أرضية مما هو أشد الأرض بما هو وظيفة العقلاء، ولذلك عبر فيه بالأمر دلالة على عظيم القدرة.

ولما كانت الجبال أغلظ الأرض وأثقلها، وكان المعنى: دعونا الجبال للتأويب معه، فبادرت الإجابة لدعائنا، لما تقدم من أنها من جملة من أبى أن يحمل الأمانة، عطف على ذلك أخف الحيوان وألطفه، ليكون آية سماوية، على أنه يفعل في السماء ما يشاء، فإنه لو أمات الطائر في جو السماء لسقط، ولا فرق في ذلك بين عال وعال، فقال: والطير أي دعوناها أيضا، فكانت ترجع معه الذكر فدل قرانها بالطير على ذكرها حقيقة كذكر الطير دفعا لتوهم من يظنه رجع الصدا، وقراءة يعقوب بالرفع عطف على لفظ "جبال" وقراءة غيره عطف على موضعه، أو تكون الواو بمعنى مع أو بتقدير فعل من معنى ما مضى كسخرنا، قال وهب بن منبه: كان يقول للجبال: سبحي، وللطير: أجيبي، ثم يأخذ وهو في تلاوة الزبور بين ذلك بصوته الحسن، فلا يرى الناس منظرا أحسن من ذلك، ولا يسمعون شيئا [أطيب] منه، وذلك كما كان الحصى يسبح في كف النبي صلى الله عليه وسلم وكف أبي بكر [ ص: 458 ] وعمر رضي الله عنهما، وكما كان الطعام يسبح في حضرته الشريفة وهو يؤكل، وكما كان الحجر يسلم عليه، وأسكفة الباب وحوائط البيت تؤمن على دعائه، وحنين الجذع مشهور، وكما كان الضب يشهد له والجمل يشكو إليه ويسجد بين يديه ونحو ذلك وكما جاء الطائر الذي يسمى الحمرة تشكو الذي أخذ بيضها، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم برده رحمة لها.

ولما ذكر طاعة أكثف الأرض وألطف الحيوان الذي أنشأه الله منها. ذكر ما أنشأه سبحانه من ذلك الأكثف، وهو أصلب الأشياء فقال: وألنا له الحديد أي الذي ولدناه من الجبال جعلناه في يده كالشمع يعمل منه ما يريد بلا نار ولا مطرقة،

التالي السابق


الخدمات العلمية