صفحة جزء
[ ص: 462 ] ولما أتم سبحانه ما أراد من آيات داود عليه السلام وختمها بالحديد، أتبعه ابنه سليمان عليه السلام لمشاركته [له] في الإنابة، وبدأ من آياته بما هو من أسباب تكوينه سبحانه للحديد [فقال]: ولسليمان أي عوضا من الخيل التي عقرها لله الريح أي مسخرة على قراءة شعبة، والتقدير على قراءة الجماعة: سخرناها له حال كونها غدوها شهر أي تحمله وتذهب به وبجميع عسكره بالغداة وهي من الصباح إلى نصف النهار مسيرة شهر كان يغدو من إيليا فيقيل بإصطخر ورواحها [أي] من الظهر إلى آخر النهار شهر أي مسيرته، فهذه آية سماوية دالة على أنه كما رفع بساط سليمان عليه السلام بما حصل من جنوده وآلاتهم ثم وضعه قادر على أن يضع ما يشاء من السماء فيهلك من تقع عليه، وهذا كما سخر الله الريح للنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب فكانت تهد خيامهم وتكفأ طعامهم وتضرب وجوههم بالحجارة والتراب وهي لا تجاوز عسكرهم إلى أن هزمهم [الله] بها، وكما حملت شخصين من أصحابه رضي الله [ ص: 463 ] تعالى عنهم في غزوة تبوك فألقتهما في جبلي طي، وتحمل من أراد الله من أولياء أمته كما هو في غاية الشهرة ونهاية الكثرة، وأما أمر الإسراء والمعراج فهو من الجلالة والعظم بحيث لا يعلمه إلا الله مع أن الله تعالى صرفه في آيات السماء بحبس المطر تارة وإرساله أخرى.

ولما ذكر الريح، أتبعها ما هي من أسباب تكوينه فقال: وأسلنا له أي بعظمتنا عين القطر أي النحاس أذبناه له حتى صار كأنه عين ماء، وذلك دال على أنه [تعالى] يفعل في الأرض ما يشاء، فلو أراد لأسالها كلها فهلك من عليها، ولو أراد لجعل بدل الإسالة الخسف والإزالة.

ولما ذكر الريح والنحاس الذي لا يذاب عادة إلا بالنار، ذكر ما أغلب عناصره النار، وهو في الخفة والإقدار على الطيران كالريح فقال: ومن أي وسخرنا له من الجن أي الذين سترناهم عن العيون من الشياطين وغيرهم من يعمل ولما كان قد أمكنه الله منهم غاية الإمكان في غيبته وحضوره قال: بين يديه ولما كان ظن ظان أن لهم استبدادا بأعمالهم نفاه بقوله: بإذن ربه أي بتمكين المحسن إليه له ولهم بما يريد فعله.

[ ص: 464 ] ولما قرر سبحانه أن ذلك بإرادته فهو في الحقيقة بأمره، زاد ذلك تقريرا بقوله عاطفا على ما تقديره: فمن عمل بأمرنا أثبناه جنات النعيم: ومن يزغ أي يمل، من زاغ يزيغ ويزوغ منهم مجاوزا وعادلا عن أمرنا [أي عن الذي أمرناه به من طاعة سليمان] أي أمره الذي هو من أمرنا نذقه أي بما لنا من العظمة التي أمكنا سليمان عليه السلام بها مما أمكناه فيه من ذلك من عذاب السعير أي في الدنيا مجازا وفي الآخرة حقيقة، وهذا كما أمكن الله نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك العفريت فخنقه وهم بربطه حتى يتلعب به صبيان المدينة، ثم تركه تأدبا مع أخيه سليمان عليهما الصلاة والسلام فيما سأل الله تعالى فيه، وأما الأعمال التي تدور عليها إقامة الدين فأغناه الله فيها عن الجن بالملائكة الكرام، وسلط جمعا من صحابته رضي الله عنهم على جماعة من مردة الجان منهم أبو هريرة رضي الله عنه لما وكله النبي صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان ومنهم أبي بن كعب رضي الله عنه قبض على شخص منهم كان يسرق من تمره وقال: لقد علمت الجن ما فيهم [من هو] أشد مني ومنهم معاذ بن جبل رضي الله عنه لما جعله النبي صلى الله عليه وسلم على صدقة المسلمين [فأتاه] شيطان منهم يسرق وتصور له بصور منها صورة فيل فضبطه به فالتفت يداه [ ص: 465 ] عليه وقال له: يا عدو الله، فشكا إليه الفقر وأخبره أنه من جن نصيبين وأنهم كانت لهم المدينة، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم أخرجهم [منها] وسأله أن يخلي عنه على أن لا يعود ومنهم بريدة رضي الله عنه، ومنهم أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه، ومنهم زيد بن ثابت رضي الله عنه، ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعنهم أجمعين [صارع الشيطان فصرعه عمر، ومنهم عمار بن ياسر رضي الله عنه] قاتل الشيطان فصرعه عمار، وأدمى أنف الشيطان بحجر، ولذلك وغيره كان يقول أبو هريرة: عمار الذي أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ذكرها كلها البيهقي في الدلائل، وذكرت تخريج أكثرها في كتابي مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور، وأما عين القطر فهي ما تضمنه قول النبي صلى الله عليه وسلم "أعطيت مفاتيح خزائن الأرض والملك في الدنيا والخلد فيها ثم الجنة فاخترت أن أكون نبيا عبدا أجوع يوما وأشبع يوما" الحديث، فشمل ذلك من روضة اللؤلؤ الرطب إلى عين الذهب المصفى إلى ما دون ذلك، وروى الترمذي وقال: حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه قال: "عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا، قلت: لا يا رب! ولكن أشبع يوما وأجوع يوما، أو قال ثلاثا أو نحو [ ص: 466 ] ذلك، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك" وللطبراني بإسناد حسن والبيهقي في الزهد وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما "أن إسرافيل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم بمفاتيح خزائن الأرض وقال: إن الله أمرني أن أعرض عليك أن أسير معك جبال تهامة زمردا وياقوتا وذهبا وفضة، فإن شئت نبيا ملكا وإن شئت نبيا عبدا، فأومأ إليه جبرائيل عليه السلام أن تواضع، فقال نبيا عبدا"

رواه ابن حبان [في صحيحه] مختصرا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وله في الصحيح أيضا عن جابر بن عبد الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أوتيت بمقاليد الدنيا على فرس أبلق على قطيفة من سندس" وفي البخاري في غزوة أحد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت مفاتيح خزائن الأرض أو مفاتيح" [الأرض] هذا [ما] يتعلق بالأرض، وقد زيد صلى الله عليه وسلم على ذلك بأن أيده ربه سبحانه بالتصرف في خزائن السماء [ ص: 467 ] تارة بشق القمر، وتارة برجم النجوم، وتارة باختراق السماوات، وتارة بحبس المطر وتارة بإرساله - إلى غير ذلك مما أكرمه الله به.

التالي السابق


الخدمات العلمية