صفحة جزء
ولما اختص - سبحانه - بالملك؛ ونفى عن شركائهم النفع؛ أنتج ذلك قوله: يا أيها الناس ؛ أي: كافة؛ أنتم ؛ أي: خاصة؛ الفقراء ؛ أي: لأنكم لاتساع معارفكم؛ وسريان أفكاركم؛ وانتشار عقولكم؛ تكثر نوازعكم؛ وتتفرق دواعيكم؛ فيعظم احتياجكم؛ لشدة ضعفكم؛ وعجزكم؛ عظما يعد معه احتياج غيركم عدما؛ ولو نكر الخبر لم يفد هذا المعنى؛ إلى الله ؛ أي: الذي له جميع الملك; قال القشيري: والفقر على ضربين: فقر خلقة؛ وفقر صفة؛ فالأول عام؛ فكل حادث مفتقر إلى خالقه في أول حال وجوده؛ ليبديه؛ وينشيه؛ وفي ثانيه؛ ليديمه؛ ويبقيه؛ وأما فقر الصفة فهو التجرد؛ ففقر العوام التجرد من المال؛ وفقر الخواص التجرد من [ ص: 31 ] الإعلال؛ فحقيقة الفقر المحمود تجرد السر عن المعلولات.

ولما ذكر العبد بوصفه الحقيقي؛ أتبعه ذكر الخالق؛ باسمه الأعظم؛ على قرب العهد بذكر الإشارة إلى الجهة التي بها وصف بما يذكر؛ وهي الإحاطة بأوصاف الكمال؛ فقال: والله هو ؛ أي: وحده؛ الغني ؛ أي: الذي لا يتصور أن يحتاج؛ لا إليكم؛ ولا إلى عبادتكم؛ ولا إلى شيء أصلا؛ ولما كان الغني من الخلق لا يسع غناه من يقصده؛ وإن وسعهم لم يسعهم عطاؤه؛ لخوف الفقر؛ أو لغير ذلك من العوارض؛ ولا يمكنه عموم النعمة في شيء من الأشياء؛ فلا ينفك عن نوع ذم؛ وكان الحمد - كما قال الحرالي؛ في شرح الأسماء: حسن الكلية بانتهاء كل أمر؛ وجزء؛ وبعض منها إلى غاية تمامه؛ فمتى نقص جزء من كل عن غاية تمامه لم يكن ذلك الكل محمودا؛ ولم يكن قائمه حميدا؛ وكان الله قد خلق كل شيء كما ينبغي؛ لم يعجل شيئا عن إناه وقدره؛ وكان الذم استنقاضا يلحق بعض الأجزاء عند من لم يرها في كلها؛ ولا رأى كلها؛ فكان الذم لذلك لا يقع إلا متقيدا؛ متى أخذ مقتطعا من كل؛ والحمد لا يقع إلا في كل لم يخرج عنه شيء؛ فلا حمد في بعض؛ ولا ذم في كل؛ ولا حمد إلا في كل؛ ولذلك قال الغزالي: الحميد من العباد من حمدت عوائده وأخلاقه وأعماله كلها؛ من غير مثنوية.

وكان - سبحانه - [ ص: 32 ] قد أفاض نعمه على خلقه؛ وأسبغها ظاهرة؛ وباطنة؛ وجعل لهم قدرة على تناولها؛ لا يعوق عنه إلا قدرته: وما كان عطاء ربك محظورا ؛ وكان لا ينقص ما عنده؛ كان إعطاؤه حمدا؛ ومنعه حمدا؛ لأنه لا يكون مانعا لغرض؛ بل لحكمة تدق عن الأفكار؛ فقال: الحميد ؛ أي: كل شيء بنعمته عنده؛ والمستحق للحمد بذاته؛ فأنتج ذلك قطعا تهديدا لمن عصاه؛ وتحذيرا شديدا:

التالي السابق


الخدمات العلمية