صفحة جزء
ثم استأنف؛ إيذانا بالاستقلال؛ تقريعا آخر لزيادتهم على الكفر التكفير؛ فقال: قل يا أهل الكتاب ؛ أي: المدعين للعلم؛ واتباع الوحي؛ كرر هذا الوصف لأنه - مع أنه أبعد في التقريع - أقرب إلى التلطف في صرفهم عن ضلالهم؛ لم تصدون ؛ أي: بعد كفركم؛ عن سبيل الله ؛ أي: الملك الذي له القهر؛ والعز؛ والعظمة؛ والاختصاص بجميع صفات الكمال؛ وسبيله: دينه الذي جاء به نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ وقدمه اهتماما به؛ ثم ذكر المفعول؛ فقال: من آمن ؛ حال كونكم؛ تبغونها ؛ أي: السبيل؛ عوجا ؛ أي: بليكم ألسنتكم؛ وافترائكم على الله؛ ولم يفعل - سبحانه وتعالى -؛ إذ أعرض عنهم في هذه الآية ما فعل من قبل؛ إذ أقبل عليهم بلذيذ خطابه - تعالى جده؛ وتعاظم مجده - إذ قال: يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم يا أهل الكتاب لم تكفرون ؛ والآية التي بعدها بغير واسطة؛ وقال أبو البقاء - في إعرابه -: "إن "تبغون"؛ يجوز أن يكون مستأنفا؛ وأن يكون حالا من الضمير في "تصدون"؛ أو من السبيل؛ [ ص: 12 ] لأن فيها ضميرين راجعين إليها؛ فلذلك يصح أن يجعل حالا من كل واحد منهما؛ وعوجا حال"؛ انتهى.

وقال صاحب القاموس - في بنات الواو -: "بغا الشيء بغوا": نظر إليه كيف هو؛ وقال - في بنات الياء -: "بغيته أبغيه": طلبته؛ فالظاهر أن جعل عوجا حالا - كما قال أبو البقاء - أصوب من جعله مفعولا - كما قال في الكشاف -؛ ويكون "تبغون"؛ إما يائيا؛ فيكون معناه: "تريدونها معوجة؛ أو ذات عوج"؛ فإن "طلب"؛ بمعنى: أراد; وإما أن يكون واويا بمعنى: "ترونها ذات عوج"؛ أي: "تجعلونها في نظركم"؛ يعني: "تتكلفون وصفها بالعوج؛ مع علمكم باستقامتها"؛ لكن قوله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح: "ابغني أحجارا أستنفض بهن"؛ يؤيد قول صاحب الكشاف.

ولما ذكر صدهم؛ وإرادتهم العوج الذي لا يرضاه ذو عقل؛ قال موبخا: وأنتم شهداء ؛ أي: باستقامتها بشهادتكم باستقامة دين إبراهيم؛ مع قيام أدلة السمع؛ والعقل؛ أنها دينه؛ وأن النبي والمؤمنين أولى الناس به؛ [ ص: 13 ] لانقيادهم للأدلة؛ ولما كان الشهيد قد يغفل؛ وكانوا يخفون مكرهم في صدهم؛ هددهم بإحاطة علمه؛ فقال: وما الله ؛ أي: الذي تقدم أنه شهيد عليكم؛ وله صفات الكمال كلها؛ بغافل ؛ أي: أصلا؛ عما تعملون ؛

التالي السابق


الخدمات العلمية