صفحة جزء
يا داود ؛ ولما كان مضمون الخبر لزيادة عظمة؛ مما من شأنه أن تستنكره نفوس البشر؛ أكده لذلك؛ وإظهارا لأنه مما يرغب فيه لحسنه؛ وجميل أثره؛ وينشط غاية النشاط لذكره؛ فقال: إنا ؛ أي: على ما لنا من العظمة؛ جعلناك ؛ فلا تحسب لشيء من أسبابه حسابا؛ ولا تخش له عاقبة؛ خليفة ؛ أي: من قبلنا؛ تنفذ أوامرنا في عبادنا؛ فحكمك حكمنا؛ وحذف ما يعلم أنه مراد؛ من نحو "قلنا"؛ إشارة إلى أنه استقبل بهذا الكلام الألذ عند فراغه من السجود؛ إعلاما بصدق ظنه؛ وقال: في الأرض ؛ أي: كلها؛ إشارة إلى إطلاق أمره في جميعها؛ فلا جناح عليه فيما فعل في أي بلد أرادها؛ ولم يذكر المخلوف تعظيما له بالإشارة إلى أن كل ما جوزه العقل فيه فهو كذلك؛ فهو كان خليفة في بيت المقدس بالفعل؛ على ما اقتضاه صريح الكلام بالتعبير بـ "في"؛ وأشار الإطلاق والتعبير بـ "ال"؛ إلى أنها الأرض الكاملة؛ لانبساط الحق منها بإبراهيم - عليه السلام - وذريته؛ على سائر الأرض؛ وهو خليفة في جميع الأرض بالقوة؛ بمعنى أنه مهما حكم فيها صح؛ وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرسل إلى قومه خاصة؛ فيكون [ ص: 367 ] ما يؤديه إليه واجبا عليه؛ وأما بقية الناس فأمره معهم من باب الأمر بالمعروف؛ والنهي عن المنكر؛ مهما فعله منه صح؛ ومضى؛ ثم كان خليفة في جميع الأرض حقيقة بالفعل؛ بابنه سليمان - عليه السلام - فاستوفى الإطلاق؛ و"ال"؛ المكملة أقصى ما يراد منه؛ إعلاما بأن كلام القدير كله كذلك؛ وإن لم يظهر في الحالة الراهنة؛ وذلك كما أن المنزل عليه هذا الذكر؛ وبسببه؛ محمدا - صلى الله عليه وسلم -؛ كان خليفة بالفعل في أرض العرب؛ التي هي الأرض كلها؛ لأن الأرض دحيت منها؛ وبيتها أول بيت وضع للناس؛ وهو قيام لهم؛ ومنه انبسط القيام بالنور والعدل على جميع الأرض؛ وفي جميع الأرض بالقوة؛ بمعنى أنه مهما حكم به فيها مضى؛ فقد أعطى تميما الداري - رضي الله عنه - أرض بلد الخليل؛ من بلاد الشام؛ قبل أن يفتح؛ وصح؛ ونفذ؛ وأعطى شويلا - رضي الله عنه - بنت بقيلة من أهل الحيرة؛ وصح ذلك؛ ونفذ؛ وقبض كل منهما عند الفتح ما أعطاه - صلى الله عليه وسلم -؛ ثم يكون خليفة في جميع الأرض بالفعل؛ بخليفته الذي أيده الله به في دينه؛ عيسى - عليه السلام - الذي هو من ذرية داود - عليه السلام -؛ ثم في جميع الوجود يوم القيامة؛ يوم الشفاعة العظمى؛ يوم يكون الأنبياء كلهم تحت لوائه؛ ويغبطه الأولون والآخرون بذلك المقام المحمود. [ ص: 368 ] ولما تمت النعمة؛ سبب عنها قوله: فاحكم بين الناس ؛ أي: الذين يتحاكمون إليك من أي قوم كانوا؛ بالحق ؛ أي: الأمر الثابت؛ الذي يطابقه الواقع؛ ولما كان أعدى عدو للإنسان نفسه التي بين جنبيه؛ لما لها من الشهوات؛ وأعظم جناياته؛ وأقبح خطاياه ما تأثر عنها من غير استناد إلى أمر الله؛ قال - مشيرا بصيغة الافتعال إلى أنه - سبحانه - عفا الخطرات؛ وما بادر الإنسان الرجوع عنه والخلاص منه؛ توبة إلى الله (تعالى) -: ولا تتبع الهوى ؛ أي: ما يهوي بصاحبه؛ فيسقطه من أوج الرضوان إلى حضيض الشيطان؛ ثم سبب عنه قوله: فيضلك ؛ أي: ذلك الاتباع؛ أو الهوى؛ لأن النفس إذا ضربت على ذلك صار لها خلقا؛ فغلب صاحبها عن ردها عنه؛ ولفت القول عن مظهر العظمة إلى الاسم الأعظم؛ الجامع لجميع الأسماء الحسنى؛ والصفات العلا؛ تعظيما لأمر سبيله؛ وحثا على لزومه؛ والتشرف بحلوله؛ فقال: عن سبيل الله ؛ أي: طريقه التي شرعها للوصول إليه؛ بما أنزل من النقل المؤيد بأدلة ما خلق من العقل؛ ولا يوصل إليه بدونها؛ لأن اتباعه يوجب الانهماك في اللذات الجسمانية؛ والإهمال لتكميل القوى الروحانية؛ الموصلة إلى السعادة الأبدية؛ فإن دواعي البدن والروح متضادتان؛ فبقدر زيادة إحداهما تنقص الأخرى. [ ص: 369 ] ولما كانت النفس نزاعة إلى الهوى؛ ميالة عن السوى؛ قال - معللا للنهي؛ مؤكدا لما للنفس من التعللات؛ عند المخالفة بالكرم؛ والمغفرة؛ الدافع للعذاب -: إن الذين يضلون ؛ أي: يوجدون الضلال بإهمالهم التقوى؛ الموجب لاتباع الهوى؛ المقتضي لأن يكون متبعه ضالا؛ عن سبيل الله ؛ أعاده تفخيما لأمره؛ وتيمنا بذكره؛ وإيذانا بأن سبيله مأمور به مطلقا؛ من غير تقييد بداود - عليه السلام - ولا غيره فيه؛ لهم عذاب شديد ؛ أي: بسبب ضلالهم.

ولما أمر - سبحانه -؛ ونهى؛ وذكر أن السبب في النهي كراهة الضلال؛ وعلم منه أن سبب الضلال الهوى؛ ذكر سبب هذا السبب؛ فقال - معبرا بالنسيان؛ إشارة إلى أنه من شدة ظهوره كما كان محفوظا فنسي؛ وفك المصدر لأنه أصرح؛ لأنه لو عبر بالمصدر لأمكن إضافته إلى المفعول؛ واختيرت "ما"؛ دون "أن"؛ لأن صورتها صورة الموصول الاسمي؛ وهو أبلغ مما هو حرف؛ صورة ومعنى -: بما نسوا يوم الحساب ؛ أي: عاملوه معاملة المنسي؛ بعضهم بالإنكار؛ وبعضهم بخبث الأعمال؛ فإنهم لو ذكروه حقيقة لما تابعوا الهوى المقتضي للضلال؛ على أنه مما لا يجهله من له أدنى مسكة من عقل؛ فإنه لا يخطر في عقل عاقل أصلا أن أقل الناس؛ وأجهلهم؛ يرسل أحدا إلى مزرعة له يعملها؛ ثم لا يحاسبه عليها؛ [ ص: 370 ] فكيف إذا كان حكيما؟! فكيف إذا كان ملكا؟! فكيف وهو ملك الملوك؟! وقال الغزالي؛ في آخر كتاب العلم؛ من الإحياء؛ في الكلام على العقل: ثم لما كان الإيمان مركوزا في النفوس بالفطرة؛ انقسم الناس إلى من أعرض فنسي؛ وهم الكفار؛ وإلى من جال فكره فتذكر؛ وكان كمن حمل شهادة فنسيها بغفلة؛ ثم تذكرها؛ ولذلك قال (تعالى): " لعلهم يتذكرون " ؛ وليتذكر أولو الألباب واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ؛ وتسمية هذا النمط "تذكرا"؛ ليس ببعيد؛ وكأن التذكر ضربان: أحدهما أن يذكر صورة كانت حاضرة الوجود في قلبه؛ لكن غابت بعد الوجود؛ والآخر أن يكون عن صورة كانت متضمنة فيه بالفطرة؛ وهذه حقائق ظاهرة لناظر بنور البصيرة؛ ثقيلة على من يستروح إلى السماع؛ والتقليد؛ دون الكشف والعيان؛ انتهى؛ وقد علم من هذه القصة؛ وما قبلها أن المعنى: اصبر على ما يقولون الآن؛ فلننصرنك فيما يأتي من الزمان؛ ولنؤيدنك كما أيدنا داود العظيم الشأن.

التالي السابق


الخدمات العلمية